في صغرنا كنا نتندرُ بدورات المياه “المدرسية” التـي تحولت زمنًا مـرآةَ رأيٍ عامٍ، وقرأنا فيها مقولاتٍ ونُقولاتٍ، وعكست ثقافةَ كاتبيها وخلفياتهم الاجتماعيةَ، وربما حوت عباراتٍ موزونةً ومجنونةً وجميلةً وكئيبةً وصادقةً وكاذبةً، وفترض أنها منتجٌ محليٌ، ثم رآها في “مطار كندي” حين وصل إليه أول مرةٍ في شهر حزيران 1980م فأيقن أن الأماكن المنزويةَ تجمع المنزوين.
- كنا -في الفسح ووقت الاستئذان أيام الطلب المبكر- نتجول داخلها لنقرأَ ما حوته أبوابُها وجدرانُها، ولا ينسى جملةً تتكرر في معظمها منسوبةً إلى الرئيس عبدالناصر: “إن حريةَ الكلمة هي المقدمةُ الأولى للديموقراطية”، ومن هنا جاء التندر عن ديموقراطيةٍ يطمح إليها من يختبئُ من نفسه وعن ناسه ليسجل -بخطٍ مرتجفٍ- بضعَ كلماتٍ عابرة.
- لم نكن نعي من نظريات الإدارةِ أن نظافة الواجهةِ لا يكفي وأن قصورَ الإشراف على المناطق القصيَّةِ خللٌ في الرؤية قد يفرزُ اختلالاً في السلوك، وأُسيءَ لمعلمين واتهم طلبةٌ ونثرت افتراضاتٌ وتخرصاتٌ لا يعني الأفرادَ نفيُها بقدر ما يعني جذورَ “التربة والتربية” في المنزل والمسجد والشارع والمدرسة المسؤولةِ “كلُّها” عن بناء جيلٍ واثقٍ بنفسه يقول ويعمل ويفصحُ ويصلح.
- هو حديثُ ذاكرةٍ اعتادت الفرجةَ والصمتَ؛ ورثه ويأمُل أن يورثَه؛ فالحياةٌ ليست المساحاتِ المفتوحةَ والساحاتِ الممنوحةَ لكنها الإحسانُ بمعنييه “التوحيديّ” و”الأخلاقيّ” اللذين يعصمان الفرد من الخلل ويحاسبانه عند التجاوز ويمنعانه من ظلمٍ و ظلام.
- وهو حديثُ بحثٍ عن الآليات المغيَّبةِ في السلوك العام؛ حيث يكاد يختفي مفهوم “الدين المعاملة”، وتعمر العبادات بالعابدين ولا تخلو من “المفلسين”، وتتسع الطرقاتُ للعابرين وتمتلئ بالمتهورين، ويستحق الموظفون رواتب على أتعابهم ومنهم المتعِبون، وينتشر الفضاءُ بالمتكلمين وفيهم الضالون والمضللون.
- من “شخبط” على “جدارٍ أو باب”، ومن يشخبطُ عبر وسيطٍ تقني يلتقون في زوايا “معتمةٍ” لم يسعها ضوءُ “الواجهة” وليس افتقادَ الحرية كما كان في زمن المرايا الخفية التي تجاورت فيها مقولةُ عبدالناصر وأغنية أم كلثوم وعلامةُ القلب المعنّى وحكمةُ الفتى التائه وإسقاطاتُ المحبطِ والمتعب والسفيه والحاقد والحاسد والمتعجل والمتمرد.
- أشتاتٌ يضمهم جدارٌ كما تضمهم شاشةٌ، وهنا تحضر المقارنةُ بين الشمس حيث الواجهةُ، والظلِّ حيث الزوايا، وهي مساحاتٌ مجتمعية “معولمةٌ” موجودةٌ عبر الاتجاهات الخمسة، وربما تبدلت الأدوار أو تُبودلت دون أن يغني ذلك عن وجود حقائق علميةٍ لا تخلط السماء بالغبراء.
- القضية هنا متصلةٌ بنظرية الحق التي تتكافأُ فيها المصلحةُ الخاصةُ والقانونُ العام فيما يضمنُ اعتباريةَ الفرد ومادياتِه ومعنوياته تحت مظلة الشرع والشرعية في اتزانٍ لا يحجب الشمس ولا يطفئُ الظلّ، ولو تحقق هذا لازداد الضوءُ وتراجع الغسق.
- ساقه قدره إلى حيث رأى الجُدُر المهيئةَ للشخبطة فاقتنع بتجاهلها بعد إزالة أدرانها ثم اكتشف أنها زالت دون مُزيل.
- الشوارعُ الخلفيةُ متاهة.
ibrturkia@gmail.comt :@abohtoon