بوّب البخاري في صحيحه في كتاب الدعوات باب الدعاء عند الكرب، ثم ساق بسنده عن ابن عباس صفتين لهذا الدعاء، قال ابن عباس رضي الله عنه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند الكرب يقول: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش العظيم (6345)، وقال ابن عباس أيضاً: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن الكرب: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم (6346).
هذا حديث جليل القدر، ينبغي الاعتناء به والإكثار منه عند الكرب والأمور العظيمة؛ فالكرب هو الغم الشديد الذي ينزل بالإنسان فيأخذ بنفسه ويحزنه ويشغل باله، وحياة الناس لا تخلو من كرب وضيق وشدة، فإذا لجأ العبد إلى ربه لكشف كربه وتفريج همه بقلب صادق ونية صالحة فرج الله همه وكشف كربه. بهذه الكلمات العظيمة كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بهن ويقولهن عند الكرب، وهو النبي الذي أيده الله وغفر له ونصره.
وتأمل كلمات هذا الدعاء العظيم على قصرها، فقد اشتملت على التوحيد بأنواعه، ففيها تحقيق لتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، فمن لزم هذا الدعاء وحافظ عليه عند الكرب فهو حري بالإجابة من ربه في كشف كربه وتفريج همه. قال الطبري: وكان السلف يدعون بهذا الدعاء ويسمونه دعاء الكرب. قال أبو أيوب كتب إليه أبو قلابة بدعاء الكرب، وأمره أن يعلمه ابنه.
وقد اشتمل هذا الحديث على الثناء والتعظيم لله تعالى، ومن آداب الدعاء تقديم الثناء قبل الطلب، فيستفتح الداعي دعاءه بالتعظيم لربه والثناء عليه بما هو أهله، ثم يدعو بعده بما شاء. وقد دل القرآن على أن هذا منهج الأنبياء في دعائهم؛ فقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم أنه عليه السلام عظَّم ربه وأثنى عليه، ثم دعا وسأل ربه، جاء ذلك في قوله جل ذكره: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ(78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ(79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ(81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ(82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ(83) وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ(84) وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَة جَنَّة النَّعِيمِ(85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّه كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ(86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ 87} سورة الشعراء.
فالمسلم يلجأ إلى ربه في كل أحواله، في حال الضراء والسراء والشدة والرخاء، وإذا ألمّ به كرب أو ضيق لزم هذا الدعاء النبوي الذي كان يحافظ عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن الله لا يُضيع أجر من أحسن عملاً.
وقد استشكل بعض أهل العلم هذا الحديث، هل هو دعاء أم تعظيم لله تعالى في معنى قول ابن عباس ((يدعو))، وإنما هو تهليل وتعظيم، وهو يحتمل أمرين، أحدهما: أن المراد تقديم ذلك قبل الدعاء، ويؤيد هذا ما رَوى الأعمش عن إبراهيم قال: كان يقال: إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استجيب، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء، كان على الرجاء. والوجه الثاني: أنه انشغال بالتعظيم والثناء على الرب جل وعلا، وهذا أعظم من المسألة مع تحققها، كما عند الترمذي (2926) في الحديث القدسي: ((من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين))، ويؤيد هذا دعوة ذي النون حين دعا وهو في بطن الحوت: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله تعالى له. أخرجه الترمذي والنسائي والحاكم. هذا ملخص ما أجاب عنه الطبري كما في شرح البخاري لابن بطال وفتح الباري (11 / 147). وفقنا الله جميعاً لكل خير، وهدانا إلى سواء السبيل.
والله ولي التوفيق.
- وكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية