ليس كل أنواع الدعم جيدة ومرغوبة في كل حال؛ فالإخوة الكويتيون يطلقون الدعم على الصدم؛ فإذا رأوا سيارتك مصدومة مهشمة قالوا لك: من اللي داعمك؟!
فهو عندهم حدث سيئ لا يثير إلا مشاعر العطف والدعاء بالسلامة من تلك الدعمة الخطيرة التي لو زادت قوتها لنقلت المدعوم إلى العالم الآخر؛ بينما لو زادت قوة الدعمة عندنا لنقلت المدعوم إلى العالم الآخر في الدنيا الذي يتمناه ويلهث من أجله ويستعين لتحقيقه والتنعم بمكاسبه عشرات الساعين إلى أن يدعموا؛ ليس بشفاعة واحدة ولا باثنتين؛ بل بثلاث فتاكة إن تيسر ذلك!
إذن فهذا المصطلح قد يكون جيدا كما هو عندنا، حيث يوصل المدعوم إلى عنان السماء، سواء كان يستحق ذلك التطيير أم لا، وقد يكون سيئا كما عند أهل الكويت، حيث إن الدعم عندهم يضر ويعطل ويوقف ويخسر وقد يكون قاتلا!
وأكاد أجد معنى مشتركا بين مفهوم الدعم عندنا و»الزأ» عند المصريين، فإخواننا هناك يقولون: متعرفش حد يُزأك، أو: هو مين اللي زؤه؟! أي من الذي أعانه وقدمه وأخذ بيده وسهل له طريق الصعود السريع!
والجامع بين دعمنا وزئهم هو: الدف! أي تحريك العربة الواقفة ودفها بقوة عنيفة لتنطلق بسرعة إلى مدارج الرقي والتمكن والنفوذ!
فلندع الدعم في المصطلح الكويتي، ولنقف عنده في المصطلح السعودي والمفهوم المصري الواضح جدا؛ فما أقل؛ بل إنه من النادر جدا أن تجد صاروخا بشريا منطلقا من قاعدته الأرضية إلى عنان السماء دون أن تدعم إطلاقه يد قوية بصيرة نافذة متمكنة تعي وتدرك متى تتخذ قرار الإطلاق الذي يطير ذلك الصاروخ البشري بسرعة البرق دون ضرورة وجود خبرات سابقة، أو شهادات كثيرة، أو دورات متعددة، أو تقديرات ممتازة عالية، أو حسن سيرة وسلوك، أو شهادات تزكية، أو تراكم سنوات طويلة في الوظيفة التي يشغلها؛ فإذا تيسرت اليد القوية النافذة المتمكنة الراغبة وكان لها صلة بطريقة أو بأخرى بمن يراد «زؤه» إلى الأعلى تلاشت الشروط، واضمحلت المفاضلات، واختصرت المسافات، ونسيت كل الأسماء التي سبقته أو التي لحقته، وحتى التي علمته ودربته وهيأته وقدمته، فمن دعمة واحدة قوية يحلق في السماء عاليا عاليا غير ملتفت إلى قوانين إدارية محفوظة في الأدراج لا يُلتفت إليها إلا مع غيره من غير المدعومين المسنودين، ولا تُدرس وتفحص ويُقرأ ما بين سطورها، ثم تطبق بحذافيرها إلا في حالة أخرى غير حالته المدعومة، فهو قد دخل بقدرة قادر في باب الاستثناء المفرغ الواجب النصب بفعل محذوف تقديره «أستثني» فلانا من كل الشروط والقيود، وأخترق كل الحدود والسدود، ولا أفسر أو أبرر لم وكيف وماذا وأين؟ فهو شأن خاص من شؤون فعل الاستثناء المفرغ من كل العوامل إلا الفعل المقدر المعروف سلفا «أستثني»!
وحق باب الاستثناء هذا وفق تفسيرنا في سياق هذه المقالة الساخرة أن يُلحق بعلم الإدارة قبل أن يدرس في باب عريض من أبواب النحو؛ فهو بالإدارة ألصق وأقرب وأكثر استخداما وتطبيقا بصورة لا تخل أبداً بالقاعدة، ولا تهشم شيئا من قيمها؛ بل تعلي من منزلة الاستثناء وترفع من شأنه وتجعله عنوانا بارزاً مطلوباً يلهث الخلق كلهم في ديار الاستثناء لأن يشملهم بعطفه، ويظلهم في ظله، وينصبهم وجوبا بفعله المقدر القوي في تأثيره، والخطير في تغييره!
ماذا يمكن أن نكتب من قصائد الرثاء لمسكين مجتهد لاهث يسعى لتحقيق طموحه والوصول إلى غاياته بدأبه وإخلاصه وتفانيه ومثاليته بدون أن تتيسر له تلك اليد القوية النافذة المستثنية التي تنتشله من تدقيق ملفه عند إداري بليد عتيق في شؤون الموظفين يتسقط كل ورقة مدسوسة من هنا أو هناك وكل تحشية من مدير لم يرق له لتعطله و»تزؤه» إلى الخلف؛ ليراوح مكانه إلى أن يشيخ!
ونقول لمثل هذا وهم السواد الأعظم الحافون الجافون الخالون من الدسم القليل والكثير: لن تجدي همة عالية، ولا إخلاص متفرد، ولا أداء نموذجي، ولا شهادات علمية عالية، ولا انضباط دقيق، ولا تقويم متميز، ولا إنتاج متفرد؛ دون وجود «دعم» فبدون الداعم الناعم الخفي لن يجدي الاجتهاد شيئا، فالأوفر لمن لا يجد ما يسند ظهره من عوامل الدعم المتعددة المعروفة أن يريح نفسه من التطلع أو الركض وراء أمنيات كالسراب حين لا يكون من المحظوظين بالقوة الخفية!
أما من توفر له عامل واحد من العوامل الداعمة؛ القبلية أو العائلية، أو النسب أو الحسب أو الصلة بطريقة أو بأخرى بذي نفوذ يستطيع أن يزؤ فإن حسابات التفوق والتميز والخبرة والشهادات والتقديرات، وحتى لو لم تكن موجودة فستُكون له بقدرة قادر، ولو كانت موجودة ولكن ضعيفة في كل حقول تقديراتها؛ فإن عامل الدعم والدف والزأ ستغطي ذلك الضعف بكلمات مزكية تنتشل المزؤء المدفوف المدعوم من آخر الصفوف إلى مقدمتها من غير منافس!
أكتب هذه الكلمات المتأملة الحرى وأنا أقرأ ما وصلت إليه «الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد» من دقة في تفسير حالة كهذه، لا يمكن أن تجد لها غير مشجب واحد لا يعاقب عليه القانون ولا تحاسب عليه الأنظمة؛ وهي «الشفاعة» فالدعم والإسناد والإطلاق من المنصات ثلاثية الدفع شفاعة يؤجر عليها صاحبها، وعمل صالح يستحق أن يثاب عليه، وهو غير ما يتبادر إلى الذهن من ذلك المصطلح الشائع الذائع المعروف بـ «الوساطة» التي تضيع على صاحب الحق حقه، وهو ما لا ترضاه الهيئة الموقرة ولا تقره؛ بل تحاسب عليه وتعده لونا من ألوان الفساد والعياذ بالله!
ولست أدري كيف لنا أن نتبين الخيط الدقيق الرقيق الفاصل بين حلكة الليل المدلهم والفجر المشعشع بأنواره؟! ما الفارق بين الدعم والدف والزء والشفاعة؟!
اللهم ارزقنا من لدنك شفاعة قانونية مدعومة؛ لا وساطة حافة جافة خالية من الدعم والدف تقف أمامها كل القوانين والأنظمة والأخلاق الفاضلة وغير الفاضلة!
moh.alowain@gmail.commALowein@