يروى أن أميراً في إحدى الإمبراطوريات القديمة وقد كان ولياً للعهد جمع نخبة من العلماء وطلب منهم أن يكتبوا له تاريخ البشرية، لكي يستنير به ويستفيد منه ويسترشد به عندما يتولى الحكم، أراد أن يستفيد من عِبر الماضي،
ويتجنب الأخطاء، ويستفيد من التجارب الإيجابية ويكررها عندما يصبح ملكاً، ليكون حكمه صائباً ومثالياً، وبعد عشرين سنة تولى الحكم، وطلب من العلماء أن يقدموا له إنجازهم، فأتوا باثني عشر جملاً، وعلى كل جمل عدة مئات من المجلدات.. خرج الملك إلى فناء القصر ليستقبلهم، ولكن عدد الجمال كان كثيراً، وكان عدد الكتب أكثر من وقت الملك لقراءتها والاطلاع عليها، فطلب منهم اختصارها.. عادوا بعد عشر سنوات بثلاثة جمال، عليها عدة مئات من المجلدات، فطلب الملك مرة أخرى اختصارها.. فغابوا عشر سنوات وجاءوا بحمل بعير من المجلدات.. فطلب للمرة الثالثة اختصارها.. فغابوا فترة من الزمن، ثم حضر رجل طاعن في السن ومعه مجلد كبير يحمله على ظهر حصان، وكان معظم زملائه العلماء قد ماتوا.. عندما وصل وجد الملك على فراش الموت الذي قال والحسرة تملأ نفسه: إنني حزين أن أموت قبل أن أعرف تاريخ البشرية..!! فقال العالم: هل يسمح لي سيدي أن أوجزه في ثلاث كلمات، فقال الملك تفضل.. فقال: (ولدوا وعانوا وماتوا).. ثلاث كلمات فقط تختصر تاريخ البشرية، ومما لا شك فيه أن جميع البشر مروا بالمراحل الثلاث، ولا يوجد إنسان عاش حياته دون أن يمر بآلام ومعاناة.. ومعاناة الإنسان وآلامه قد تزيد وتتضاعف بزيادة طموحه، وبارتفاع مكانته وموقعه في المجتمع لأن مسؤولياته وارتباطاته تزيد تبعاً لذلك، ولهذا قال الشاعر:
كل من لاقيت يشكو دهره
ليت شعري هذه الدنيا لمن؟!
وفي المعنى نفسه يقول أبو العلاء المعري في داليته المشهورة:
تعبٌ كلها الحياة فما أعجبُ
إلا من راغب في ازدياد..!!
ربَّ حُزنٍ في ساعةِ الموتِ
أضعافَ سرورٍ في ساعة الميلاد..!!
جميع البشر يموتون ويرحلون عن هذه الدنيا، كل في وقته وساعته التي كتبها الله له، وهذا هو الموت المادي، وجميع البشر فيه سواء، ولكن هناك موت آخر هو الموت المعنوي، وهنا تختلف حظوظ البشر فيه، بقدر ما يتركون من آثار ولمسات تظل حية وشاخصة في حياة البشرية، فهناك أناس يظلون أحياء بحياة ذكرهم وأفعالهم وأقوالهم على مستوى الجماعة، وعلى مستوى الدولة، وعلى مستوى الإقليم، ثم على مستوى العالم، وبعضهم تستمر تلك الحياة بعد موت صاحبها فترة وجيزة، وبعضهم تستمر ردحاً من الزمن، وكلما اتسعت دائرة حياة الإنسان من خلال ذكره كان أقرب إلى الخلود في ذاكرة البشرية، ومن هذه الفئة جميع عظماء التاريخ في مجالاته المختلفة، الإصلاحية، والعلمية، والأدبية، والعسكرية، والاستكشافية وغيرها من المجالات، ويأتي في طليعة هذه الفئة نبي الإسلام محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد وضعه الكاتب الأمريكي (مايكل ج هارت) في المقام الأول بين المائة الأوائل الذين أثروا في تاريخ البشرية، وتأثيره - صلى الله عليه وسلم - في حياة البشر مستمر في جميع الأوقات والعصور والأماكن، فالمؤمنون برسالته يذكرونه في كل أذان، وفي كل صلاة، ويستحضر معظمهم هديه وسنته وتعاليمه في موقف حياتهم المختلفة، ويتم ذكره - صلى الله عليه وسلم - في كل يوم يدخل أناس في الإسلام لاقتناعهم بهديه ورسالته الخالدة، وأنه المنقذ للبشرية من حيرتها وضياعها، وبهذا المفهوم لا يمكن أن يموت الرسول - صلى الله عليه وسلم - بل سيظل حياً في قلوب الناس وفي أحاسيسهم ومشاعرهم، وسيظل حياً كلما أحيا الناس سنة من سننه، واتبعوا هديه وأخلاقه، وجميع الأنبياء الذي ورد ذكرهم في القرآن ستظل حياتهم المعنوية قائمة ما دام القرآن يتلى في هذه الأرض، وهناك علماء ماتوا وسيظل ذكرهم في حياة البشر خالداً مثل ابن الهيثم، وابن سيناء، وجابر بن حيان، وابن خلدون، وتوماس أديسون، وإسحق نيوتن، وأينشتاين وغيرهم، وهناك شعراء من جميع الأمم سيظلون أحياء ما دام الناس تقرأ أشعارهم وتحفظها وتنفعل بها مثل امرؤ القيس، وزهير بن أبي سلمى، والمتنبي وأبو العلاء المعري وأحمد شوقي، وطاغور ومحمد إقبال وجوته، وهناك أدباء ترجمت أعمالهم إلى لغات عديدة سيظل ذكرهم حياً ما عاشت أعمالهم وتم تداولها وقراءتها منهم الجاحظ وفكتور هوجو وشكسبير، وديكنز، وماركيز وغيرهم، ومثل ذلك يقال عن الفلاسفة والمخترعين والمنظرين في العلوم المختلفة.
إن حياة الإنسان بعد موته تعتمد على الأثر الذي يتركه بعد موته، ومدى قوته وتأثيره في الأجيال المتعاقبة، ومن كل ما سبق نستطيع أن نعيد صياغة عبارة العالم القديم للملك الذي كان على فراش الموت عن تاريخ البشرية فنقول: (عاشوا، وعانوا، وماتوا، ولكن بعضهم ما زال حياً بما قدم للبشرية من أعمال خالدة).
zahrani111@yahoo.com- أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام