الأخت التي بيني وبينها خبز الأمل وملح الأحلام
إلى د. مشاعل البكر مع أجمل التهاني القلبية
كنت للتو قد عينت معيدة بالجامعة بعد تخرجي ببكالوريس علم اجتماع من كلية لويس آند كلارك بالشمال الغربي الأمريكي، عندما صادفتها الساعة التاسعة مساء عند بوابة جامعة الملك سعود في مطلع الثمانينات (يوم) كانت الجامعة تعمل بنظام الساعات. كنت أنتظر زوجي ليقلني فظنت أنني أريد “توصيلة”، فلفت نظري حسها المرهف تجاه قلق المواصلات للسيدات بمجتمعنا. كانت تحمل مؤونة كبيرة من الكتب والدفاتر. خيل لي أن البنت ديمة محملة بتباشير مطر إلا أنها عرفتني على نفسها بأنها طالبة في أحد التخصصات العلمية. مرت عدة سنوات بعد ذلك المساء الخاطف لم تلتقِ طرقاتنا، ولكن حين صافحت يدها السخية السمراء عن قرب بعدها بأعوام تأكدت أن مالاح لي من خلال بروق ذلك المحيا السمح لم يكن خيالا. فقد بدت مشاعل شعلة من العطاء. ومع كل لحظة كنت أتعرف فيها عليها عن قرب أكثر كنت أكتشف بشكل أكبر وأعمق ذلك الكم الهائل من موهبة الحب والعطاء التي تملكها مشاعل بعفوية وكأنها مرج زنابق أو بساتين من فل وكادي تملؤ ماحولها بالعبير دون أن تتكلف تعطير الجو, ودون أن تبغي أو تتوقع أن تجني مجدا جراء كل هذا الأريج. كان القدر يعمر دون أن أشعر طودا وطيدا لصداقتنا بيد مشاعل, مرة بكلمة حلوة ومرة بلمسة حنان ومرات لاتحصى برحابة الصدر وبشروق ابتسامتها وبعزة نفسها وما تتميز به من صبر خلاب وأشواق ممشوقة كمدة حاء في كلمة حرية أو حق. كان أبناؤنا بتقاربهم وفروقهم العمرية يكبرون أمامنا بأبطأ مما نبذل وبأسرع مما نتوقع وكنت أداعبها بمقولتي الشهيرة “الأولاد صاروا شباب لئلا نكون الشباب الوحيد على الأرض” وكانوا يبادلوننا الضحكات كما كانت مشاعل تبادلني دور الأمومة حين كنت أنغمس لعظمة ترقوتي في دوري كطالبة عندما كنت أعمل على أطروحة الدكتوراه. لم تتركني أواجه أوجاع سنوات من شغف البحث المعرفي والحفر في مقام النساء داخل الخطاب السياسي السعودي لحظة واحدة وحدي, بل وقفت إلى جانبي بأسئلتها الذكية وبمفاجآت طلاتها كطاقة قدر وقت الشدائد بفناجين قهوة تفوح هيالا وزعفران وبما تتميز به من نفس نادر في عمل الحنيني والجريش وأصابع الملفوف وورق العنب. كانت مشغولة بي وبأبنائي بيدها اليمنى وبيدها اليسرى رغم مشاغلها التي لاتقل مسؤولية عن عرش بلقيس وهي تدير إمبراطورية الميم الخاصة بها من الشاب الصغير وقتها مهند العتيق إلى أخواته منار وملاك والطفلة العسل مجدولين. وكانت في كل ذلك مشرقدافئة مرحة وأريحية إلى حد صرت أرى مشاعل الأخت التي لم تلدها أمي بكل ماتحمل كلمة أخوة الصداقة من معاني التعاضد والتساند ومافيها من مشتركات الخبز والملح والآمال والآلام. هذه هي مشاعل الصديقة التي أشركتني في قلبها فصرت أشعر أن السيدة والدتها ليست أمها وحدها بل أمي الثانية وأن منصور وهيفاء وبقية السرب البكري إخواني, وأولادها أولادي بجانب الطيف العريض من صداقاتنا المشتركة. وهذه مشاعل المرأة الإنسانة التي شاركتني عقلها في الملتقى الأحدي وفي تمثيله في اللقاءات الفكرية على مستوى الجمعيات النسوية بالخليج كجمعية المرأة بالبحرين وفي قراءة ما أكتب وفي تبادل عدد مما يكتبه آخرون بأقلام وطنية. وهذه هي مشاعل صاحبة الضمير الذي يأبى النوم في القضايا الشريفة سواء في اليومي والبسيط منها أو في الكبير والمصيري. فهي حاضرة الضمير في قضية فلسطين وفي موقف أبي من الهيمنة الغربية على المقدرات الطبيعية العربية, كما هي حاضرة الوجدان في صلة الرحم وصلة الجار وصلة الأصدقاء في الحزن والأفراح معا وفي المرض والصحة وفي العزلة والأنس. وهاهي تكلل مسيرتها العملية والتعليمية على جبهة البحث والتربية والتعليم بأطروحة الدكتوراه. فمبروك لنا ولأم مهند ولأمها أم فهد هذه النصرة وهذا الإنجاز المعرفي الذي لم يأت إلا بعد عمر مشتعل بجمال العزيمة وبقوة الإرادة وبالكثير الكثير من العمل الدؤوب والإخلاص والإصرار.
Fowziyaat@hotmail.comTwitter: F@abukhalid