للأمم والمجتمعات هويات كما للأفراد هويات، وهوية مجتمع ما هي الصورة الذهنية التي يكونها عن نفسه اعتمادا على تاريخه وتوافقاً مع واقعه. وهناك من يرى أن الصراعات التاريخية ما هي إلا تجسيد لصراع هويات تتنافس،
وعندما لا تتمكن إحداهما من إزاحة الأخرى عبر صراع سلمي يكون صراع أو اقتتال يفرز فيما بعد هوية توافقية يفرضها الواقع لا التطلع، وهلم جرا.
وقد لجأت الأمم التي احترقت بنيران حروب شاملة مدمرة، مثل أوربا، وشرق آسيا، إلى وضع آليات سلمية لإدارة صراع الهويات في مجتمعاته بتنافس سياسي يمنع انزلاقه إلى صراعات مسلحة، بينما بقيت كثير من مناطق العالم مناطق صراع هويات معسكرة تؤججه أحيانا بخبث الدول التي تبيع السلاح التي تقتل به الهويات المتناحرة.
يطلق الغرب على حضارتنا، الحضارة العربية/ الإسلامية، وهي تسمية غير مجافية للواقع، فالحضارة التي شهدتها منطقتنا شاركت فيها، ولعبت الدور الأهم فيها ربما شعوب إسلامية امتدت من خراسان إلى تطوان وكثير منها شعوب غير عربية العرق لكنها عربية اللسان والثقافة.
وبمرور الوقت تحولت الهوية العربية إلى هوية ثقافية مرتبطة بالأساس باللغة فيما عدا جيوب قبلية تنتمي أساسا لكيانات تنظيمية اجتماعية صغيرة.
والملفت للانتباه أنه إذا قويت الأمة العربية واشتد مدها القومي، ازداد تعلق الأقليات الأخرى بكونها عرباً، وإذا ضعفت زاد ابتعادهم عنها ورغبتهم في إعادة إحياء تراثها المحلي الخاص بها والانفصال كما هو الحال لدى الأقباط، والأكراد، والأمازيغ مثلاً، فلا أحد يريد أن ينتمي لأمة مهزومة مكسورة.
ولا نبالغ إذا ما قلنا إن إنشاء دولة إسرائيل ودعمها لإلحاق هزائم متتالية بالعرب دور في تهشيم وتقزيم الهوية العربية وتشويهها لدى العرب أنفسهم، وعلى مستوى العالم.
الجانب الآخر لهويتنا هو الهوية الإسلامية وهي هوية أصيلة تضعنا في خارطة أوسع، وتدخلنا في صراعات قد لا تكون متعلقة بصفة مباشرة بنا كشعوب ناطقة بالعربية، وهي بقدر ما تشكل دعماً إضافيا لنا تضعنا في دائرة منافسة أوسع مع ثقافات إسلامية لها جذور غير عربية كإيران مثلاً وتاريخها الصفوي، فالإيرانيون يريدون إظهار الثقافة الإسلامية على أنها ثقافة فارسية-إسلامية وليست عربية-إسلامية.
وإيران تؤجج الصراعات المذهبية من أجل ترسيخ هذا المفهوم بجر بعض العرب الشيعة، الذين يعتقد بعضهم بالظلم المذهبي الأبدي انتظاراً للمهدي، إلى الاعتقاد بكونهم جزءاً من كيان إسلامي أكبر بقيادة إيران لا جزءاً من كيان عربي-إسلامي.
الصراع القومي الإسلامي، بالرغم من تناقضه الظاهري فقط، قد يكون سبب بلاء هذه الأمة في تاريخها الحديث لسبب رئيس هو أنه شوش على الشعوب العربية هويتها، وصورتها عن نفسها، وجعلها متذبذبة مترددة لا تعرف من تكون ولا إلى ماذا ستؤول، فأشغلنا هذا الانقسام الوهمي عن تطلعاتنا للأهداف السامية الكبرى بالنهوض بأمتنا، وحلت محلها أهداف وضيعة هي في تحقيق انتصارات مرحلية على بعضنا البعض الآخر.
فهذا الصراع شرخ أمتنا، وأضعف لحمتها بشكل جعل التدخلات الخارجية أيضاً ممكنة وسهلة.
بريطانيا مثلاً دعمت التطلعات القومية العربية ضد الأتراك، ودفعت لإنشاء جامعة الدول العربية على غرار “الكومون ويلث” التابع للتاج البريطاني، ثم ما لبثت أن دعمت الأخوان المسلمين في صراعها مع عبدالناصر بعد تأميم قناة السويس بحجة أن القومية نوع من العنصرية، وشبهوا عبدالناصر بهتلر، وكأنما تشرتشل لم يكن قومياً بريطانيا، والشعب البريطاني لا يتغنى بالملكة ليل نهار.
وإسرائيل للمعلومية سلحت حماس في بداياتها تكريساً للانقسام الفلسطيني الذي لا زال يضرب أطنابه في صراع فلسطيني-فلسطيني.
نعم إسرائيل اليوم في صراع مرحلي مع حماس لكن الأهم هو أنه على المدى الطويل استطاعت إسرائيل شل قدرة الشعب الفلسطيني بخلق نوع من الانفصام في صورته عن نفسه.
هذه أمثلة بسيطة ولكن أينما يممت في عالمنا العربي تجد صوراً أخرى من هذا الصراع الخفي الذي انتشر في أمتنا كالبراكين التي هي إما في حالة فوران، أو في حالة خمود تنتظر ضعف القشرة الخارجية للكيانات السياسية لتنفجر.
عنوان هذا الصراع الخفي، الذي تغذيه الدول المهيمنة، واليوم يمكن إدخال إسرائيل من ضمنها، هو بقاء الأمور على ما هي عليه، أمة كبيرة متخلفة مترهلة تسيطر عليها دولة صغيرة متقدمة، وإذا ما ظهرت بوادر تغير أو تغيير يتم لعب كرت صراع الهويات المكرس من زمن بعيد. المحزن أن كثيراً من الأنظمة العربية لم تعي هذه الموضوع، أو أن بعض قواها السياسية تحاول استغلاله بشكل انتهازي على حساب تاريخها وحضارتها.
الصراع القومي الديني موجود في أوربا وأمريكا وجميع دول العالم حتى الشيوعي منها، ولكن الغرب يولي إدارة هذا الصراع بشكل سلمي أولوية قصوى.
ولا ننسى أنه إبان الحرب الباردة طالب روزفلت باستنهاض الدين ضد الشيوعية ليس فقط في المعسكر الشرقي بل وفي أوربا ذاتها في دول مثل أسبانيا، وإيطاليا والبرتغال إلى حد ما فرنسا لتحول دون تحولها لكيانات شيوعية.
فمجازر فرانكو ارتكبت بحجة الدفاع عن الكاثولكية، واغتيال الدومورو رئيس حكومة إيطاليا في 1978م كان لمنع توافق شيوعي- مسيحي في حكومة ائتلاف تسمح لإيطاليا بالاستقرار والتطور.
ما نشهده اليوم فيما يسمى بالربيع العربي هو تهاوى حكومات ذات مد قومي بشكل أو بآخر، قومي حتى ولو من قبيل الإدعاء الظاهري، وقد بدأ ذلك بالعراق، ثم تونس، ثم ليبيا، ثم اليمن ومصر، مما سمح ببروز الهوية الإسلامية كمنصرة على القوى القومية، وهذا بحد ذاته ليس أمراً سلبياً بل قد يكون تداول للسلطة الإيدلوجية غير معلن، غير أن الأمر الخطر هو تحول ذلك إلى صراع هويات يشغل أمتنا لقرون قادمة ويسمح للآخرين التدخل فيها شئونها، أولا سمح الله التلاعب بها.فنحن أما مفترق طرق هام جداً.
وقد يقول قائل بأن الحكومات الإسلامية التي ظهرت في الدول العربية مؤخرا ذات طابع توافقي وهي تنهج نهجاً شبه ديمقراطي، وقد وصلت لسدة الحكم عبر صناديق الاقتراع، وهذا أمر لا نقاش فيه، ولكن، أليس معظم الأنظمة الديكتاتورية، ألم يكن جميعها، عبر التاريخ استلمت الحكم بناء على رغبة الشعوب واستمدت قوتها منهم؟ فالديكتاتورية باختصار هي احتكار السلطة، وإقصاء الاتجاهات الأخرى، وهي لا يمكن أن تكون بداية حكم ما لأنه ليست هناك شعوب عاقلة تقبلها، لكنها تأتي عبر الوعود البراقة بالإصلاح، والتوافق ثم لا تلبث أن تنزلق في هذا المنزلق حفاظاً على بقائها في السلطة، وخوفاً من خسارتها وتصفية الآخرين حساباتهم معها.
العلم الحديث بلا شك أضعف الشعور بالتفوق العرقي لدى الشعوب المتعلمة، حيث أثبت أن البشر سواسية في قدراتهم، وإمكاناتهم، وأن تفوق الشعوب حضاري وليس عرقي، والعلم أيضا أضعف روح التعصب بكافة اتجاهاتها بما فيها الديني منها، لكن النظرة العرقية والتطرف الديني بقيت سمة ملازمة، وللأسف، للشعوب الأقل حظاً من التعليم.
وما يحصل في ميدان التحرير اليوم في مصر هو صراع خفي للهويات عرفته مصر لأجيال، وعرفته الدول العربية الأخرى أيضاً بعد انتشار المد الديني والجهاد الأفغاني في الثمانينات.
فالغرب دعم الجهاد الإسلامي ضد الشيوعية، واحتضن وما زال يحتضن كثيراً من القيادات الإسلامية، بعضها عاد واستلم زمام الحكم كما في تونس أو ليبيا أو مصر ذاتها، ولم يكن ذلك حباً في عمر إنما إضعافاً لزيد بحيث يستمر صراع بعضنا مع بعضنا الآخر، وبحيث يشل نصف مجتمعنا السياسي النصف الآخر بشكل مستمر.
وما هذه إلا شنشنة خبرها الغرب عن العرب طيلة تاريخهم، فالغرب اليهودي المسيحي، كما يدعي إدوارد سعيد، يرى أن التهديد الحضاري الأكبر له هو الإسلام العربي المجاور له عقيدة وجغرافيا.
الغريب في الأمر أن هذا الصراع بين العروبة والإسلام ليس أصيلاً بل تم تأصيله عبر الصراعات المختلفة حول النفوذ.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif