الكتابة نوع متأنق من أنواع النشاط البشري لها تاريخ ومذاهب ومجالات كتب الناس وما زالوا يكتبون وسيكتبون كل ما عن لهم من حاجات وضرورات ومرفهات وآداب وفضائل منذ النقش على جدران الكهوف إلى ملامسة جدار الآيباد الرقيق فهي أي الكتابة وساطة بين الناس بعضهم البعض في التعبير عما تجيش به صدورهم فتقذفه أقلامهم على أوراقهم فما هو تاريخها وبمعنى أدق شيء من تاريخها وما يستأنس به مما كتب عنها في آدابنا وآداب غيرنا وما مقامها بين مجالات القول الإنساني في هذا المقال والذي سيليه بإذن الله:
ولعلنا نأخذ جولة على شيء من أوجه نمو الكتابة فمن التحكم أن ندعي أن هذا هو المجال الوحيد الذي من الممكن أن نسرد فيه أطوار الكتابة فلكل باحث مذهب وطريقة وحزمة بيانات ووثائق ومعلومات ومراجع ومصادر وأدلة تختلف عن من سواه ولا تزال الآفاق ممتدة أمام من يروم البحث والتنقيب في أطوار ومراحل الكتابة فما زالت بعض المدن التراثية المطمورة بكراً ولكنها ليست عصية على الباحث الجاد المتجرد ولا تزال إلى جوار الحفريات مخطوطات لم تحقق ولم تدقق وبعضها لم يعثر عليه فالمهم أن الرحلة طويلة في هذا العالم العجيب المميز.
قصة الكتابة:
في الماضي مثلت كل كلمة صورة مجردة للمدلول، وهو ما عرف بالكتابة التصويرية pictographic فإذا أردنا أن نقول عصا نرسم عصا وإذا أردنا أن نخبر عن خروف نقوم برسم صورة خروف وهكذا ولا يخلو الأمر من الترميز فيكتفى بقرني الثور للتعبير عنه بل وهناك إشارات تحيل على الأفعال فترسم قدم وإلى جوارها حزمة حطب بمعنى أنه ذهب يحتطب ولم تتجمد العملية الكتابية على هذا فالرموز عادة لا تقاوم التطور فهي بحاجة ماسة إليه فبدأت هذه الرموز تتشكل صوراً وأيقونات وقوالب علاقتها غير مباشرة مع المدلول بل تحولت إلى حزمة من الخطوط الدالة على الفكرة والتي تشير بدورها إلى أصولها فعرفت بالرسوم التصويرية ideograms فتجاوزت الكلمات الآلاف وهي متوافرة في اللغة الصينية وهذا ما مكنها من التأبي من الذوبان في الطور التالي عندما بدأت الكتابة الصوتية تتنسم الحياة بل سايرتها وأخذت بيدها وتماشيا كجنسين مؤتلفين لا يمايز بينهما سوى السياق وهذا هو غالب الكتابتين الآشورية والمصرية والكتابة الصوتية هي نتيجة اقتران صوت مخصوص بصورة مخصوصة وكانت ممهدة لظهور الحرف عام 1800 ق.م في سيناء فجعلت بعض العلامات كدليل على الحروف الجامدة وهي عبارة عن صوت الكلمة الأولى التي أخذت منها، بينما تعرف الحروف المتحركة من خلال سياق الكلمة لينتهي المطاف على الحرف الساكن والحرف المتحرك الهجائية والتي غالباً ما يكون عددها ثلاثين.
في كتابه تاريخ القراءة يعرض آلبرتو مانغويل لبعض الصفحات من تاريخ الكتابة فيقول (في عام 1984م عثر في منطقة تل براك في سورية على لوحين صلصاليين مربعي الشكل تقريباً يعودان إلى الألف الرابع قبل الميلاد، قبل اندلاع حرب الخليج بنحو عام شاهدتهما داخل فترينة متواضعة في متحف الآثار في بغداد أثران تاريخيان لا يثيران الانتباه أبداً يحملان علامات عادية للغاية: حزة في الأعلى ورسم لحيوان في الوسط، أحد الحيوانين قد يكون عنزاً والآخر قد يكون على أي حال خروفاً وكما يظن علماء الآثار الذين تحدثت إليهم فإن هذه الحزة المحفورة في اللوحين قد تشير إلى العدد عشرة إن مجمل تاريخنا يبدأ بهذين اللوحين العاديين علماً بأنهما - هذا إن كانا قد نجيا من الحرب - ينتميان إلى أقدم الشواهد التي نعرفها عن الكتابة) (1).
ولكن هل هذين اللوحين هما بعينيهما أقدم الشواهد المكتشفة لا يريد آلبرتو أن منشأ الكتابة نقشت على اللوحين السومريين ففي الصين وأمريكا الوسطى بواكير مزامنة لهذين اللوحين بل أن الصين لا تزال غنية باللامكتشف من الآثار الكتابية والعجيب أن الصينيين لم يعثروا إلى الآن على ما يسبق القرن السادس عشر قبل الميلاد ورد في قصة الكتاب الصيني لـ ليوكيو - تشن الأستاذ في جامعة بكين (إن أقدم كتابة صينية موجودة هي الـ تشيا كوين chia kuwen أو النقش على العظام، وتعود إلى أواخر عصر سلالة شانغ الحاكمة (في المدة من القرن السادس عشر إلى القرن الحادي عشر قبل الميلاد) وقد تم اكتشاف العظام المكتوب عليها في قرية هسياتون بمنطقة أنيانج في إقليم هونان قبل سنة 1899م تقريباً)(2).
يفتتح برتراند راسل محاضرته الأولى في أثر العلم في المجتمع بـ (يعود وجود البشر إلى نحو مليون سنة وتعود معرفتهم للكتابة إلى نحو ستة آلاف سنة بينما تعود معرفتهم بالزراعة لحقبة أقدم قليلاً أما العلم فقد تواجد كعامل مهيمن في تقرير معتقدات المثقفين من البشر لنحو 300 سنة، في حين أنه أصبح مصدراً للتقنية الاقتصادية منذ 150 سنة وحسب في هذه الحقبة الوجيزة برهن العلم على كونه قوة ثورية ذات قدرة هائلة) (3).
فالكتابة عند راسل عرفت منذ ستة آلاف سنة فبينها وبين لوحي آلبرتو ألفي عام أيضاً من هذا الافتتاحية الراسلية نجد أن البشر منذ مليون سنة لم يطوعوا العلم كمصدر للتقنية الاقتصادية فتم ذلك خلال المئة وخمسين عام المنصرمة وهذا المدة لا تعتبر شيئاً في عمر الإنسان وبذلك يزول العجب إن وجد من أن الكتابة تأخرت حتى الستة آلاف عام الماضية مع أن البشر قطنوا الأرض منذ مليون سنة وبطبيعة الحال لا ارتباط بين العلم والكتابة في الزمن المعرفي فالله علم آدم الأسماء كلها قال تعالى (وعلَّم أدمَ الأسماء كلَّها) قال ابن عبّاس: علّمه الأسماء كلّها وهي هَذِهِ الَّتِي يتعارَفُها الناس من دابة وأرض وسهل وجبل وحمار وأشباه ذَلِكَ من الأمم وغيرها. وروى خُصَيْف عن مُجاهد قال: علمه اسم كلّ شيء. وقال غيرهما: إنما علَّمه أسماء الملائكة. وقال آخرون: علّمه ذرّيته أجمعين.
وأما الكتابة فنحتاج في إثباتها إلى نص أورد بن فارس في سفره النفيس الصاحبي:
(يُروى أن أول من كتب الكتاب العربيَّ والسّريانيّ والكُتُب كلها آدم عليه السلام، قبل موته بثلاثمائة سنة، كتبها فِي طين وطبخه. فلما أصاب الأرضَ والغَرقُ وجد كلُّ قوم كتاباً فكتبوه، فأصاب إسماعيلُ عليه السلام الكتابَ العربيّ.
وكان ابنُ عباس يقول: أول من وضع الكتاب العربيّ إسماعِيلُ عليه السلام، وضعه عَلَى لفظه ومَنْطِقه.
والرواياتُ فِي هَذَا الباب تكثر وتختلف.
والذي نقوله فِيهِ: إن الخطّ توقيف، وذلك لِظاهِر قوله عز وجل: {إِقرأ باسمِ ربِّك الَّذِي خَلَق، خَلَق الإنسان من عَلَق، إِقرأ وربُّكَ الأكرم الَّذِي علّم بالقلم، علّم الإنسان مَا لَمْ يعلم} وقال جلَّ ثناؤه: {والقلم وَمَا يسطرون} وإذا كَانَ كذا فليس ببعيد أن يوَقِّفَ آدمَ عليه السلام أن غيرَه من الأنبياء عليهم السلام عَلَى الكتاب.
فأما أن يكون مُخْتَرَع اخترعه من تِلْقاءِ نفسه فشيءٌ لا تَعْلم صِحته إِلاَّ من خبر صحيح)(4) انتهى.
هذا الخبر عن آدم روي عن كعب الأحبار وورد في أدب الكتاب للصولي والوزراء الكتاب للجهشياري والمزهر ووفية الأسلاف ولكني لم أعثر له على أثر لا في الصحاح ولا في السنن ولا في المسانيد ولا في الجوامع.
ومع ذلك ما من أمة إلا خلا فيها نذير وما من رسول إلا وأوحى الله إليه وأنزل إليه كتاباً فهذه الكتب مكتوبة ويحتاج أصحابها إلى تدوينها وتأويلها وهذا لا يتم إلا بممارسة الكتابة مما يشككنا كثيراً في أطروحات سدنة الثورة المعرفية الأوربيكية والمتأثرين بنظرية التطور والارتقاء والملتزمين بها بشكل حرفي.
وجدت الفلسفة والسحر والقوانين في الحضارات البائدة ونحتت الجبال بيوتاً ولكن هل وجد العلم بمعناه النفعي وبمعناه النظري وهل دون ذلك دراسياً أو نخبوياً وهل وجدت الكتب ولهذه الأسئلة لا بد من حلقة خاصة بتاريخ الكتاب.
***
(1) آلبرتو مانغويل تاريخ القراءة دار الساقي ت سامي شمعون ط3 2011 ص 39.
(2) ليوكيو - تشن قصة الكتاب الصيني مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية ت عبدالعزيز الحميد ط1 2010م ص 17
(3)برتراند راسل أثر العلم في المجتمع مركز دراسات الوحدة العربية ت صباح الدملوجي ط1 2008م ص19.
(4) بن فارس الصاحبي دار إحياء الكتب العربية تحقيق أحمد صقر ص10-11
t-alsh3@hotmail.comTALSH3 # تويتر