دأب صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز - بالرغم من مشاغله الكثيرة- على أن يقتطع جزءاً من وقته الثمين لرعاية الأدب والأدباء، ولهذا فإن مجلس أمناء مركز حمد الجاسر الثقافي سيتشرف برعايته الكريمة، وهذه لفتة من لفتاته التي ألفناها، كما أنها تتماشى مع حصيلته الأدبية والتاريخية التي تراكمت عبر السنين سواء من خلال القراءات الكثيرة، أو السماع أو البحث عن شوارد المعلومات هنا وهناك.
وممن سيحظى بشرف المشاركة في اجتماع الأمناء أحد الأساتذة الحاصلين على جائزة الملك فيصل رحمه الله، وأحد علماء المغرب المتخصصين في الأدب الأندلسي وهو الأستاذ الدكتور محمد بنشريفة، ومن ضمن ما أصدره حديثاً كتاباً اسمه «زاد المسافر وغرة محيا الأدب السافر» لأبي بحر صفوان بن إدريس التجيبي، ويليه ذيل زاد المسافر لمؤلف مجهول، لكن كتاب زاد المسافر سبق أن نشره دون ذيل الأستاذ عبد القادر محداد وقال قولا غير مقبول في العصر الذي عاش فيه أبو بحر صفوان وهو العصر الموحدي المغربي الأندلسي، حيث نعت ذلك العصر وأهله من الناحية الأدبية بالانحطاط وصفات أخرى غير حسنة وصف بها أهل ذلك العصر، وعلق على ذلك الأستاذ بنشريفة مخالفاً إياه في بعض القول. لن أطيل الحديث عن ذلك فهذا قد لا يهم بعضاً من القراء، أو قد لا يضيف لبعضهم شيئاً، غير أنها إيماءة أدبية أحببت إيرادها.
لكن مما قد يهم القارئ تلك الإشارة التي أوردها محمد بنشريفة إلى انتشار شعر مهيار الديلمي المشرقي الذي عاش في المشرق العربي وذلك في الشرق الأندلسي، وكأن الشرق قد جمعهما ابن أبي البقاء قد عاش في شرق الأندلس وكذلك أبو صفوان، ولهذا فإن أبا بحر عندما سمع أبياتاً لأبي البقاء الأندلسي يذكر فيها نجداً وبعضاً من الأماكن في المشرق ظن أنها لمهيار الذي يعيش في العراق وهو مخطئ فيما ذهب إليه، فهي لم تكن إلاّ لأبي البقاء. وفيما يلي الأبيات:
ليت شعري هل وجدتم بعدنا
ما وجدنا من أليم الذكر
لوعة نجدية تطرقنا
وغرام بابلي يعتري
وهوى هيّج ما هيّجه
من جوىً أضرمه نار الفِكَر
كلما أبصرتُ شيئا حسناً
بعدكم أعملتُ غضّ البَصَر
ونحسب أبا بحر معذوراً، فالقصيدة ببحرها وغزلها البدوي وما يشيع فيها من أسماء نجد وحزوى وغيرهما شبيهة بشعر مهيار المشرقي، وفي تردّد اسم نجد لدى أبي بحر ومعاصريه يقول:
لِيَ الله كمْ أهْذي بنجدٍ وأهلها
وما لي إلاّ التَوَهّم من عهدِ
وما بي إلى نجدٍ نُزُوعٌ ولا هوىً
خلا انهم شَنّوا القوافي على نجدِ
وجاءوا بدعْوى حسّنَ الشِّرُ زورَها
فصارتْ لهمْ في مصحفِ الحبِّ كالحمْدِ
فواعجبي كيف أن نجداً تذكر في شعر أندلسي مع بعد المسافة. وهنا أود أن أقول إن نجداً كانت في الزمن الجاهلي، وصدر الإسلام، والعصر الأموي، والعصر العباسي، وما بعده من عصور، وفي المشرق والمغرب الإسلامي، كلمة جمعت فيها معاني الوجد والنوى، واللوعة، والهوى، والحب والأسى، والنسيم العليل، والروض الجميل، وسهام المها، ومشاعل اللما، وقفزات الريم، وبطولة الفهد، وحسن الوليد. والحقيقة أن نجداً بخلال أهلها وتاريخها ينبوع رائعٌ للشعراء يتغنون بها، ويرون فيها دافعاً لقول الشعر، واستلهام النثر، والاستطراد في الخيال، ورسم الصور الجمالية، واستجلاب البديع، من جناس وطباق، واستعارة وكناية، وغيرها من المحسنات البديعية. لا يمكن لمن عاش في نجد إلاّ ويروي ظمأه من عبيق وردها، وصفاء سمائها وامتداد صحرائها.
نعود لأبي بحر لنقول: إنه شاعر قد أورد في شعره وفي كتبه شيئا من الوصف الفاضح، أو الهجاء القادح، لكنه في ذات الوقت رجل عفيف ودلالة ذلك قوله:
عزم الغرام علي في تقبيله
فرفضت أُبْدي الطوع من عزماته
وأبى عفافي أن أقبل ثغره
والقلب مطوي على جمراته
فاعجب لملتهب الجوانح غلة
يشكو الظما والماء في لهواته