حينما قال الكاتب الساخر محمود السعدني رحمه الله يصف حياته “وقفت دائمًا إلى جانب ما هو حق وقاتلت دائمًا في صف العدل وخسرت أشياء كثيرة بسبب رعونتي وكسبت أشياء أخري بسبب وضوح موقفي وذقت كل أنواع الحياة وعشت أيامًا طويلة في هيلتون مدريد بأسبانيا ونمت أيامًا في حدائق القاهرة وأنفقت مائة جنيه في ليلة وقضيت عدة أيام أبحث عن قرش صاغ واحد،
وقابلت عددًا كبيرًا من رؤساء الجمهوريات وصادقت عساكر بوليس وعمال بناء ومكوجية، نمت على شاطئ بحيرة جنيف وفي فندق الصخرة في جبل طارق لكن لا يزال أجمل مكان أحن إليه هو قريتي في المنوفية”.
هكذا عبر الكاتب الساخر الراحل محمود السعدني عن مشوار حياته في كتاباته. وأعتقد أن هذه حال كل مثقف تزأر روحه لمسقط رأسه حينما يحتاج إلى الزمن الجميل والذكرى الخالدة والهدوء والانزواء والانسحاب من معارك الحياة الوهمية، ولا أخفي سرا حينما تقسو الحياة وتكشف لي عن أسرارها أغيب عن الحاضر المر وأستحضر من ذاكرتي مدينتي ومسقط رأسي ذات المسمى الشريف (طريف) بوابة الوطن الشمالية ..
صباح الخير يا طريف، كما قال شكري لطنجة ذات صباح: صباح الخير ياطنجة، صباح الخير يامدينة جدي وأبي وأهلي الكرام، صباحا لا يختلف عن صباح الروائي محمد شكري في روايته الخبز الحافي لطنجة حينما قال: “صباح الخير أيها الليلييون، صباح الخير أيها النهاريون، صباح الخير يا طنجة المغرسة في زمن زئبقي، ها أنذا أعود لأجوس كالسائر نائماً عبر الأزقة والذكريات، عبر ما خططته عن حياتي الماضية الحاضرة، كلمات واستلهامات الندوب لا يلهمها القول، أين عمري من هذا النسَج الكلامي؟ كأن عبير الأماسي والليالي المكتظة بالتوجّس واندفاع المغامرة يتسلل إلى داخلي لكي يعيد رماد الجمرات غُلالة شفافة آسرةً، لقد علمتني الحياة أن أنتظر أن أعيَ لعبة الزمن بدون أن أتنازل عن عمق ما استحصدته، قل كلمتك قبل أن تموت فإنها ستعرف حتماً طريقها, لا يهم ما ستؤول إليه, الأهم هو أن تُشعل عاطفة أو حزناً أو نزوة غافية، أن تشعل لهيباً في المناطق اليباب الموات، فيا أيها الليليون والنهاريون.. أيها المتشائمون والمتفائلون.. أيها المتمردون.. أيها المراهقون.. أيها العقلاء لا تنسوا.. لا تنسوا أن لعبة الزمن أقوى منا، لعبة مميتة، لا يمكن أن نواجهها إلا بأن نعيش الموت السابق لموتنا بإماتتنا أن نرقص على حبال المخاطرة نشداناً للحياة، أقول: يخرج الحي من الميت، يخرج الحي من النتن والمتحلل، يخرجه من المثخن والمنهار، يخرجه من بطون الجائعين ومن صلب المتعيّشين على الخبز الحافي.”
مساء الخير يامدينتي الغالية، مساء أروع من سؤالهم لي بما أني منك وأنت مني في ليلة نجدية من تلك الليالي التي قيل فيها: ( ليالي نجد مامثلك ليالي) عن بيت شاعرك الملهم:
لأنك من أهل طريف يالي لبست التاج
عشقنا تراب طريف مع ورده وشوكه
فأجبته بأني صدقا لا أعرفه ولكنه صورة نبطية لقول المجنون:
أمر على الديار ديار ليلى
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وماحب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
ولكن طريف تستحق أن تحب لأهلها المملوءين بالقيم والخلق الرفيع وتستحق العذارى فيها أن يلبسن التيجان والصولجان ويتبخترن في أيوان الشرف والعفة، وكذلك تستحق طيورها التي تغرد في الفضاءات وزهورها التي تنشر عبقها في كل من حولها وترابها الذي تشمه فتشفى من كل فيروسات خطوط الطول ودوائر العرض، نعم كل شيء فيها يحب حتى ثعابينها وعقاربها وكلابها وقططها وأشواكها وطقسها الشديد البرودة، وتضاريسها التي لم يخلق الله مثلها في بلاد الدنيا، وتعرجات السنين في وجوه كهولها تحكي للخالدين مسيرات الجود والمجد وتحولات الحُبّ إلى قيم وفضائل بحروب وبطولات أشرف من حروب الإلْيَاذَةِ وبطُولات جِلجامش..
صباح الخير يامن هي الطّاقةُ الكامنةُ الّتي آنَ لها أن تنبعث من قَلب رجل تجاوز المسافات تحرّياً وإثباتا لوجُود ومصِير وهوية، ومغامرات خلف حدود أبعد من بلَاد القوقاز ووَراء جبال البلقان، فيها مشيت وهرولت وجريت بحثا عن شروق الشموس من وَراء جبال أم اوعال ودوقرا والقزيز وكتيفا، آن لها ان تنبعث من ضحكات قلب طفل فرحا بالعثور على نبتة ربحلا برية تقاوم العطش ليسقيها بريقه ويحفظها بجوفه من هوج الرياح والأعاصير ليوم يبعثون.. صباح الخير يا من وصَلت معها حد التباهي بالآخر، لم تتنوع الرؤَى ولم يتبدّل الخطَاب، لِئن طريفا رؤيةٌ واحدةٌ وحب واحد وتراب مقدس، لن يتغَير الحب مهما ينزل الّليْل أو يرتفع النهار، تروى الأرض أو تجفّ، تتصحَّر الدّنيا أو تخصب، تتجدد الأشياء أو تبْلى، تنام الكَائنات أو تصحُو، يثور البحر أو تتغير اليابسةُ، ينتصرون في مؤامراتهم أو يهزمون، لتبقَى طريف في النهاية الحقِيقَةُ المطْلقةُ برغم كل السياجات والأسلاك الشائكة.. صباح الخير يامن في ظلها يسمو العالم السفلي الشرير، ويحيا تموز الموت فِي حكاية عشْتَارِ التي استحقت أن تكون سيدة التوحد العشقي النادر الذِي يحمِي سُلالاَت الحب ويتبنى موشَّحات الرّومَانْسيةِ والخطاب الأوّل لعَاشقها في الخيال والتّصور عن مقَامه المظْلمِ ، عَاشقها الحَزين كما وصفَه أنْتونْيُو في “تاجر البندقيّة “، عاشقها المسْروق من رمالها الذهبية حتى اللحم المنزوع والعظام المجروشة، عاشقها المقاد إلى عالم الأموات مُدمى كما جرى لدَمُوزِي من أجل عِشْتَار، فهذا الحب لا يعرف حدوداً، ولا قوانِين، إنه جوهر التقابل بين كائنين حينما يعطي الاثْنان أجمل صورة لعشْتارِ وجِلْجامِش وشهرزَادِ وشَهريَارِ وأنا وطريف برغم إيماني أن الحب فوق كل النهايات، مقَدس وإن كان قرينا للدمار والموت مثلما فَعل بِكيلُوبَاتِرا وانْتونْيو، ورُومْيو وجُوليِت، أنَا كَارنِينَا وفِرونَسْكِي وكَاتْرينَ وفِريدْرِيك هِنَرِي، وهَكذَا العشاق تنتابهم لعنةُ تدْمير الذّات بطَريقة أشمل، فلَا وجود لحب أخرسَ كما قيل..
صباح الخير يامن قال عنها العميد الركن د. علي التواتي في مشواره بمجلة اليمامة:” ولا أخفيك بأنني أصبت بصدمة حضارية عكسية عندما جئت للدراسة في جدة”.فسأله المحرر: ما السبب وراء هذه الصدمة الحضارية التي قلت بأنك أصبت بها عندما جئت للدراسة بجدة في المرحلة المتوسطة؟ وأجاب: لأنني وجدت الأمور في جدة بدائية، بل متخلفة عما كنت عليه في طريف سواء للمدارس أو لوسائل الترفيه؛ فوسائل الترفيه التي كنت أعرفها لم تكن موجودة، ففي طريف كانت هناك سينما، وفي طريف فتحت عيني على مدرسة ابتدائية بنتها شركة التابلاين بينما في جدة المدارس قديمة وغير مهيأة لأن تكون مدارس؛ وهي عبارة عن قصور أو مبانٍ مستأجرة، وفي طريف كنا نأكل الآيس كريم باسكن روبنز الذي كان يأتينا من بيروت، وكنا نأكل الهمبرجر ونحصل على الثلج المبشور بالكميات التي نريدها وكانت المدارس مكيفة ومدفأة.. وكنا نشتريها من الكانتين (الكمباوند) الخاص بالشركة الذي يوردها بالطائرة ثلاث مرات في الأسبوع من بيروت”.
عذرا.. مدينة كانت بهذه الحضارة ألا تستحق أن يعشق ترابها مع ورده وشوكه كما قال ذلك الشاعر، والله من وراء القصد.
abnthani@hotmail.com