أريد أن أحيي في هذه المقالة الملحقية الثقافية السعودية في فرنسا التابعة للتعليم العالي في المملكة العربية السعودية والتي سواء مع ملحقها السابق أو الحالي وأعني الأستاذين الجليلين والزميلين المقتدرين عبد الله بن علي الخطيب، وإبراهيم البلوي،
على مجهوداتهما الكبيرة التي لا تقدر بثمن ليس فقط في ما يتعلق بتقريب الثقافة السعودية إلى المحيط الأوربي الذي يجهل الحقائق عنا ولكن أيضا في المساهمة في نشر العلم والمعرفة.. وأحيي هنا الكتب النيرة التي تترجمها الملحقية من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية مساهمة منها في إغناء المكتبة العربية وتقريب ما يجب أن يقرب إلى القارئ والباحث وأخذ القرار العربي.
استوقفني كتاب متميز ترجمته مؤخرا الملحقية الثقافية السعودية من الفرنسية إلى العربية حول التمويل الإسلامي للكاتب والباحث جنيفياف كوس بروكيه وهو كاتب يستحق التوقف عنده وقراءته من كل خبير متمرس أو مبتدئ في مجال الاقتصاد الإسلامي لأن الذي كتبه ينظر بنظرة اقتصادية غربية عن مجال اقتصادي إسلامي له مميزاته وخصائصه وعن بيئة مؤسساتية مالية لها محدداتها. وسأترك القلم لممهد الكتاب الذي لخص المعطى الحالي والمسائل الإيجابية لهاته البيئة الخاصة؛ إذ تزامن تطور النظام المالي الإسلامي في العشرين سنة الأخيرة مع ظاهرتين: من جهة زيادة الثروات البترولية في الشرق الأوسط وفي آسيا، ومن جهة ثانية قوة الإسلام التي تبعت استقلال بعض البلدان الإسلامية عقب الحرب العالمية الثانية.
وحدث نموه البارز في لحظة ملائمة. وفي حقيقة الأمر إذا كان التمويل موضع جدل في بعض اللحظات التاريخية بين الجماعات الدينية حول شرعية ممارسة الفائدة، وإذا كان المفكرون في لحظات مختلفة (أرسطو، ماركس، كينز) قد تطرقوا إلى مشروعية الفائدة، إلا أن العالم استقر على نظام مالي موحد يعد عالميا. وفي اللحظة الراهنة يتعرض هذا النظام للنقد من منطلقين: أحدهما: أن الأفراد يبحثون عن مبادئ أخلاقية تبدو لهم غير موجودة في النظام التقليدي؛ والثاني: أن التمويل صار موضع تساؤل باعتباره تحولا إلى شيء تجريدي افتراضي ومنفصل عن الواقع.
ولا يسعنا إلا أن نبقى في حيرة ونتساءل عن ماهية وملاءمة النظام المالي السائد حاليا عندما نعلم أن الأحداث الأخيرة التي مست عالم التمويل وكانت وخيمة العواقب لا يمكن أن تحدث في نظام مالي إسلامي؛ إذ لا يمكن لأزمة الرهان العقاري الناتجة عن ارتفاع في معدلات الفائدة أن تحصل في النظام المالي الإسلامي طالما ممارسة الفائدة محظورة فيه. ولا مجال لأن تتم عمليات المضاربة البحتة في مؤسسة تحظر المضاربة. من هذا المنطق، بوسع دراسة التمويل الإسلامي أن تقود إلى التفكير في الانحرافات الممكنة لنظامنا، من قبيل ما تطرق لها سلفا المنظرون المذكورون أعلاه.
مع هذا فإن انعدام معدلات الفائدة -السمة الجوهرية للتمويل الإسلامي- لا يكفي لاختزال هذا النظام، حتى وإن كانت هذه النقطة، هي المبدأ المحوري لهذا التمويل. فمبدأ المشاركة في الربح والخسارة-أساس العائد الذي يناله المقرض في ظل انعدام معدلات الفائدة- هو أيضا من الأهمية بمكان.
يندمج التمويل الإسلامي في نظرية الاقتصاد الإسلامي ومن مبادئها يستمد مرجعيته، وهي نظرية تشكلت وعرفت التنظيم المنهجي الرسمي انطلاقا من تعاليم الدين الإسلامي. لذا فإن استيعاب الميكانيزمات المصرفية يقتضي أن نعرج أولا على نظرية الاقتصاد الإسلامي.
تعتبر دراسة التمويل الإسلامي حسب الخبير جنيفياف كوس بروكيه أمرا معقدا لأنها تتضمن بعدا دينيا. المهمة حساسة طالما في المسألة ديانة وهي أكثر حساسية ما أن يتعلق الأمر بالإسلام. وإلى ذلك يشير جاك أوستروي: «لا شيء يفتقر للتطمين، عموما أكثر من دراسة الإسلام اليوم أو غدا. فالإرباك الناجم عن دراسة ما من هذا النوع لا يأتي فقط من أسباب عرضية، أو من محاذير سياسية أو مصالح أثيرة، إنما يرجع إلى أسباب عميقة تجعل من الإسلام غامضا للدارس الأجنبي». يوضح الكاتب الصعوبة الناجمة عن تداخل الثقافات. الواحد منا لديه صعوبات في تحديد ما هو خاص بالآخر.
كما أن الصعوبات تنجم في كون الأصول الدينية للديانات التوحيدية الثلاث هي نفسها، غير أن العالم الزمني والعالم الديني في الثقافة المسيحية مفصولان. وفي مجال الأعمال أصبحت الطرق الغربية في التفكير والطرق في الإدارة علمانية، ولم يعد من الوارد أن يتخذ من التوراة مرجعا في كتاب يتطرق للتمويل، حتى وإن كان الموضوع معدا لذلك وكانت المصادر الأخلاقية للأعمال تنهل من الكتب المقدسة. بينما يختلف الأمر بالنسبة للعالم الإسلامي. فأصول النظام المالي الإسلامي الفتي مأخوذة مباشرة من الشريعة الإسلامية، ومن القراَن على وجه الخصوص. لهذا بدا للخبير جنيفياف كوس بروكيه، من الضروري إسناد بعض الأفكار بالاقتباس النصي من بعض السور. ونتيجة لبعده الديني فإن التمويل الإسلامي يربط بين حقلين: الأكاديمي والديني، هذا لأن كلا من هذين الحقلين لا يرتكزان على نفس قواعد التبرير. ففي المجال الأكاديمي، يبرهن الباحث -المُدرِّس على حد رؤاه، وفي الحقل الديني ليست البرهنة هي المطلوبة، إنما المطابقة مع القانون الإلهي.
إن التمويل الإسلامي ليس ابتكارا حديثا: إنها مسألة إعادة إحياء لمجموعة أدوات تجارية ومصرفية كان يستعملها قديما التجار على المحاور الكبيرة التي تربط الأسواق التجارية الأفريقية والبلدان العربية. حينها كان يتم التعامل بهذه الأدوات دون أي قيود بيئية. فالتحدي الماثل أمام الفاعلين الحاليين للتمويل الإسلامي هو إعادة إحياء هذه الأدوات في بيئة أصبحت مختلفة: دولية، مقيدة وتنافسية. فقد يكون من اللازم في آن واحد تكييف الأدوات القديمة وتطوير منتجات جديدة تنافسية ومطابقة لتعاليم الإسلام بغية إرضاء العملاء الحاليين.
وعليه يقتضي الأمر في التمويل الإسلامي نوعين من المنتجات:
- منتجات تمثل أصالة النظام من خلال استئناف الأدوات القديمة والقائمة على مبدأ المشاركة في الربح والخسارة.
- منتجات جديدة -شبه مماثلة لتلك المنتجات التي تعرضها البنوك التقليدية، إلا أن أجر البنك لا يقوم على الفائدة وإنما على هامش ربح- تتيح هذه المنتجات للبنوك الإسلامي تجنب السقوط في الهامشية داخل النظام المالي الدولي.
تستمد هاتان الفئتان من المنتجات المصارف الإسلامي فائدة مزدوجة كل واحدة منها تطابق فئة من المنتجات. من ناحية يمكننا اعتبارها على أنها بنوك استثمارية ومن ناحية أخرى هي مؤسسات مصرفية تنجز عمليات تجارية ومالية لعملائها.
أنشئت المصارف الإسلامية في بداية الأمر في بعض البلدان الإسلامية -خصوصا في بلدان الشرق الأوسط، في مصر واَسيا- حيث كانت تلبي حاجة العملاء المحليين. ثم تم إنشاء بنوك إسلامية في بلدان أخرى لتلبية حاجة المسلمين الذين يعيشون خارج بلادهم.
لذا تكيفت المصارف الإسلامية، وواصلت تطوير منتجات جديدة. بالمقابل لم تتابع بيئة هذه البنوك نفس إيقاع التطور على اعتبار البيئة هي مصدر الصعوبات التي يمكن أن تواجهها. ولكي يتمكن النظام من تطوير نفسه، ينبغي على هيئات التنظيم، والأسواق المالية والحكومات، أن تأخذ بعين الاعتبار هؤلاء الفاعلين الجدد في الحياة الاقتصادية والمصرفية الدولية، الذين يشتغلون -كظاهرة جديدة- تحت قيد مضاعف: ضغوط حياة الأعمال وضغوط الحياة الروحية.
الكتاب شيق ويستحق المطالعة والتقدير من الملحقية الثقافية التي تأسست هذه السنة في ترجمة الكتب الغربية المعتمدة إلى العربية وفي وطن عربي نحتاج فيه إلى المزيد من الجهود في هذا الباب خاصة إذا أخذنا في الحسبان أن دولة أوروبية صغيرة مثل اليونان تترجم إلى لغتها الأم أكثر مما تترجمه الدول العربية مجتمعة، ولله عاقبة الأمور.