أظن أن الاكتشافات الأثرية من أكثر الأشياء تشويقاً للناس مهما كانت توجهاتهم، فالإنسان نتيجة لتاريخه وماضيه، ولعل هذا هو ما يعطي تلك الاكتشافات ذاك الغموض، وهذا الحماس لا يكتنف علماء الآثار فقط بل حتى الناس العاديين، وتزيد جرعة التشويق هذه إذا كان المكتَشَف إنساناً، ومن أعجبها بالنسبة لي هو الإنسان المذكور في العنوان.
رجل كلونيكافان من عجائب الاكتشافات الأثرية التي عثر عليها البشر، والأعجب من هذا المعلومات التي استطاع البشر استخلاصها عن هذا الرجل باستخدام العلم الحديث. سُمّي هذا الرجل على المدينة التي اكتُشِف فيها وهي مدينة كلونيكافان في إيرلندا، فذات يوم من أيام عام 2003م كان رجل يمتطي آلته الحاصدة في تلك المدينة عاملاً في حصد حقل من النباتات وشعر بشيء غريب، ولما فتح تلك المركبة وفحَصَ الخزانة التي تحوي النباتات المحصودة فوجئ بمنظرٍ مريع وهو النصف الأعلى لجثة بشرية، ولما أبلغوا السلطات ظنوا أن الضحية رجل قتله الجيش الإيرلندي الجمهوري وهو اسم إحدى المجموعات المسلحة التي حاربت الحكومة البريطانية لتحصل على استقلال شمال إيرلندا من المملكة المتحدة، وظنت الشرطة أن المجموعة قتلت هذا الرجل ودفنته هناك، ولكن لما قام الخبراء بالمزيد من الفحوصات فَغَروا أفواههم مذهولين: صحيح أن الرجل كان ضحية قتل ولكن لم يكن لتلك الجماعة أي دور وما كانت تلك جثة عادية، بل كان عمرها أكثر من ألفي سنة!
نعم، إنها واحدة من أقدم جرائم القتل المعروفة والتي لدينا لها جثة وأدلة، وقدَّر الخبراء تاريخ الجثة بأن صاحبها عاش في فترة تقديرية تتراوح بين عامي 392 إلى 201 قبل الميلاد. هذا الشاب كان في العشرينات من عمره لما قُتِل كما استنبطوا من تحليلهم، وعلِموا أنه قُتِل بسبب الآثار على جمجمته والتي رأوا عليها آثار ضربات فأس، ولكن الغريب والذي أثار فضول العلماء لم يكن الجريمة بل شَعر الرجل، فرغم الفترة البعيدة التي عاش فيها ورغم عوامل الجو والتحلل إلا أن شعره ظل محتفظاً بقوامه، ووجدوا من دراسة الشعر أن الرجل عاش على غذاء غني بالنبات مما يشير لأنه قُتِل في الصيف لمّا توفرت المحاصيل الزراعية، والأعجب أن شعره بقي فيه مادة هلامية - أي مثل الجل – والتي استخدمها الرجل لتصفيف شعره، وتكوَّن الجل من دهون نباتية والراتنج وهي المادة الصمغية التي توجد على الأشجار، ولم يكن هذا متوفراً في إيرلندا آنذاك وهذا ما دلّ على أن المادة استورِدت من جنوب فرنسا أو من إسبانيا، وأنه كانت هناك علاقات تجارية بين إيرلندا وتلك المناطق في القرن الرابع والثالث قبل الميلاد في الفترة السالفة للإمبراطورية الرومانية والتي سيطرت على الشعب الكلتي (الإيرلندي)، وبما أن المادة أتت من الخارج فهذا دلّ أن الشاب كان ميسور الحال وأنه قدر على شراء الكماليات المستوردة، إضافة لأن تحليل أظافره وشعره أفاد أنه كان يأكل اللحم وهو من طعام الأغنياء آنذاك.
معلومات مدهشة! هل قتلوه يا ترى طمعاً في ماله؟ محتمل، وأياً كان السبب فقد أعطانا رجل كلونيكافان – بدون علمه – أثراً عجيباً من التاريخ.