وفاء لقامات مملكتنا العزيزة وأن لم نلتق بها، واستذكارا جميلا لشخصياتنا الوطنية وإن لم نرها، أولئك الذين عملوا بصمت وغادروا مكان المسؤولية بصمت، لم تبهرهم الأضواء ولم يفتنهم حجم الصلاحيات، وأذهلوا كل من أمامهم في قدرتهم على ضبط أعصابهم في أسوأ المواقف وأصعبها مما تشيب له النواصي، نقول لهم جميعا:
لايمكن لنا أن ننساكم نحن أبناء هذا الجيل، وسنذكركم ماتعاقبت الليالي والأيام، مثلما تستحضركم الإنسانية في كل موقف نبيل، نتعلم من صمتكم، ونستمد من إخلاصكم للوطن والقيادة ماينير لنا دياجير مراحل العمر، نتهجى دروسكم ونكتب تضحياتكم في أسفار الخالدين حتى كان هذا الوطن الجميل وعلى هذا النمط الأجمل، والذي يفرض علينا خيالا نغمض أعيننا فيه قليلاً ثم نتصور ما كنا سنصل إليه لولا هؤلاء الذين احترقوا ليُضيئوا زمانا كان يهددنا من أركان الكون بالظلام.... قال معالي الشيخ صالح طه الخصيفان في رسالته الطويلة لي والمؤرخة 22-6-1427هـ: “..وأنت أيها الابن الغالي العزيز أعتبر نفسي وأنا في هذه السن المتقدمة بعض الشيء قد بعثت في وجداني الكثير من المعاني العظيمة وكيف يكون الود والتواصل من كريم من أصل كريم وأهنئك على هذا الإصدار العظيم الذي قرأته ومعي ابني طه الذي يحضر الماجستير، وكنا جميعنا نشعر بأننا أمام سفر من الإشراقات المضيئة عن كفاح مؤسس وبانٍ عظيم جلالة الملك عبد العزيز آل سعود جعله الله في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء وحسُن أولئك رفيقا، لقد شدتني وابني تلك الرسائل والتوثيق لها والسرد الموفق للأحداث مما لم نطلع عليه إلا من هذا الإصدار الذي أضاف لمكتبة كل باحث ومؤرخ شيئا عظيما من الأسس الكبيرة لكيفية بناء الدولة والتعاملات مع الأحداث التي كانت في بدايتها وفي ذلك الوقت تعتبر شيئا وحدثا عظيما لايقوى على عمله إلا الرجال الكبار ومن سخرهم الله وأجرى على يديهم تلك النقلة الهائلة، لك شكري ودعائي عند بيت الله الحرام أن يبارك فيك ويحفظك ويوفقك.. فهنيئا لأمة فيها مثلكم والابن عبد الرحمن زاده الله توفيقا وزادكم سدادا وتوفيقا ودمتم وطبتم في حفظ الله.. محبكم ووالدكم المستشار بالديوان الملكي الفريق أول. م. صالح بن طه الخصيفان”.
إن هذه الكلمات الخالدة عن مرحلة التأسيس وبطلها جلالة الملك عبد العزيز ومعاونيه من الرجال الأفذاذ في تلك المرحلة الاستثتائية من تاريخنا المجيد كانت بعد أن استعرض معاليه كتابي (وثائق الملك عبد العزيز- حقائق وبيارق) ولاشك أنها ترشح مصداقية وإنصافا بعثتها من ذاكرتي ضرورة الوفاء لهذا الرجل الوطني الكبير في هذا الوقت واستحضارا للشخصية المسؤولة الصامتة، وبخاصة أن معاليه من رجال الوطن الذين عملوا بصمت طيلة هذه السنين دونما ضجيج، فاستحقوا أن يملأوا قلب هذا الوطن الأخضر والقيادة الراشدة ولازالوا، ولازال أيضا أرشيفهم جزءا من ذاكرة الإنسان والتراب في هذا الوطن، وفيه من التفاصيل مايستعصي على النسيان صدقا أن الذي أغراني اليوم في نشر جزء من رسالة معالي الشيخ صالح طه الخصيفان مالمسته من أثر إيجابي حينما نشرت رسالة الشيخ الوقور المربي الفاضل الأستاذ عثمان الصالح في يوم الأثنين 2-7-1431 في جريدة الجزيرة، العدد 13773 في مقال بعنوان (طبت حيا وميتا ياعثمان الصالح) وكانت جوابا على قصيدة في الأمير نايف رحمه الله بعنوان (الأمير نايف...ثابت كالشموس) وكانت عبارات الشيخ عثمان عن الأمير نايف بن عبد العزيز رحمه الله تعالى مفعمة بالود الصادق والخلق النبيل وتعزيز الوطنية في نفوس جيل بأكمله لهذا الوطن وقياداته تماما كما هي عبارات الشيخ صالح، وذكرت في ذلك المقال أنني أملك نفائس لاتقدر بثمن وكنوز من عبق الماضي الجميل تتمثل في رسائل كثيرة سأكتب عنها بين كل فترة وفترة ولعلي أضمها في إصدار حينما تكتمل من رجالات الوطن من أمثال معالي الشيخ عبد العزيز التويجري رحمه الله والشيخ عثمان الصالح ومعالي الدكتور غازي القصيبي ومعالي الدكتور عبد العزيز الخويطر وأستاذ الأدب حمد القاضي ووجهاء كثير غيرهم ممن شرفوني بها طيلة السنوات الماضية، وكانت رسائل خطية بمناسبة إهداءات كتب أو تعقيبات على مقالات أو قصائد أو مناسبات أخرى، وتستمد تلك الرسائل أهميتها لأن كاتبيها كانوا يرسمون حضارة أمة كاملة، وكانوا رجالها في مرحلة البناء، والدرس الأخلاقي المهم في طياتها أن هؤلاء العظماء حينما أرسلوها لم يدر بخلد أحدهم أنها ستنشر ذات يوم للجماهير، ولذلك كتبوها بمداد الصدق والوفاء للوطن والقيادة في السر والعلن، في الحاضر والغائب، في المعلن وغير المعلن في الرسالة الشخصية وفي الخطاب الرسمي، كتبوها من خلجات نفوسهم ومن دهاليز ولائهم الذيايتغير مهما تغيرت الحوادث والأيام، ومنهم معالي الشيخ الفريق “صالح” الذي استطاع بمساعدة معاونيه وفريقه الأمني أن يحيل جهـاز “المباحث” إلى جهاز إنساني في المملكة العربية السعودية في وقت كانت الأجهزة الأمنية في كثير من الدول تقتل بالشبهة وتعتقل بالظنون وتعلق المشانق وتصدر فرامانات الإعدامات وتطبق الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ في الشوارع والمقاهي والمجالس، ونجح بحبه لولاة الأمر وحبه لهذا الشعب أن يؤدي متطلبات الجهاز ورغبة ولاة الأمر مع استعمال أفضل الطرق والوسائل في التعامل مع القضايا والمشاكل أياً كان نوعهـا، فما توارى منطقه الصالح ولا طاش عقله الحصيف، وكان قادرا على فتح صندوق باندورا المليء بالشرور والملفات الممغنطة بطريقة إنسانية بعيدة عن تأثير الإشعاعات الضارة في منطقة صراعات وحروب وكوارث وتدخلات في الشؤون الداخلية واختلاط المسموح به سياسيا واجتماعيا وثقافيا وغير المسموح ضرورة وترفا مما يربك العقلاء آنذاك، والذي استطاعوا أن يفسحوا للحريات بشكل تدريجي ماتتطلبه كل مرحلة بخطى ثابتة دون قفزات تفقد واثبيها توازنهم، وكانت تلك الظروف أشبه بما يزيد من مناعة الوطن ضد فيروسات الخراب والتدمير، فهي وإن أفرزت جدالا كانت له شخصياته ومآربها وسجالها الذي لاينتهي، فقد أفرزت في المقابل من هو أكثر اتزانا ومواقف وطنية لاتنسى، وكلاهما يواصل أطروحاته التي ترثها الأجيال وينصفها التاريخ للبرهنة على ما هو سلبي أو ما هو إيجابي في آخر المطاف والذي يؤكد أن هناك حكومات وأجهزة وشخصيات سيعيد إليها المستقبل الاعتبار مثلما يسلبه من آخرين، ومنها أيضا مايستعصي على النسيان سواء في الذاكرة أو الوجدان القومي أوالشعور الشعبي، ولاإخال صالح بن طه الخصيفان إلا من هؤلاء الذين اتفقت عليهم كل الأطراف، وأنصفهم المختلفون واحترمهم المخالفون على تنوع مصادر ثقافاتهم وأعراقهم ومشاربهم وعداواتهم ومشروعاتهم الخاصة والعامة.. فجزاه الله عنا كل خير وأجزل له المثوبة إنه ولي ذلك...والله من وراء القصد .
abnthani@hotmail.com