الألفية الثالثة، التي نـُعايش سنتها الثانية من عقدها الثاني، هي، بلا شك، المنعطف الحاسم لنشوء بشر من نوع فذّ في التاريخ، يتماهون مع جيل جديد مُغاير من «الحقائق» - علينا أن نُسميّها افتراضية لأنها كذلك - تُشكِّل قطيعة بائنة مع مثيلاتها السابقات، مع أنها ولدت من صلبها ورحمها، وذلك بعدما أخذت الحقائق السابقة تتفكك وتتحلل، وتضطر إلى الانسحاب التدريجي من المشهد الكوني المُستجد على خشبة الفكر والرؤية للإنسان.
لكن، هل يصحّ أن تُسمى الحقيقة.. افتراضية، بينما يُحيلها هذا النعت (الذي يعني الاحتمال والتحوّل والانتقال من حال إلى أخرى) فكرة غامضة مُتقلبة، مشكوكاً بمكوناتها على نحو يتعذَّر عليها الانتساب إلى مصافّ «الحقائق»؟
بلى.. ذلك أن التكنولوجيا الرقمية واستخداماتها المُشرّعة على برامج الكومبيوتر المختلفة، وسهولة الاتصال والتواصل بين البشر، على مستوى الكرة الأرضية، عبر شبكة الإنترنت، وألعاب الفيديو الإلكترونية، وتسخير الكومبيوتر في التخطيط والرسم والإحصاء والتوقـّع والاستشراف، وإجراء العمليات الجراحية الدقيقة، والاشتراك بحروب عسكرية حقيقية.. كلّ هذه «الحقائق» الافتراضية أصبحت من صنف الحقائق التي «لا يُشقّ لها غبار».
لكن هذه «الحقائق»، التي لا غبار فيها ولا عليها، تُمثّل الآن، وستبقى كذلك، نصف الحقيقة فقط، لأنها لا تتوقف عند حدود معينة، ولن يُقيّض لها أن تصطدم في طريق مسدود، أو تنزلق إلى متاهة الهاوية، أو تدور في حلقة مفرغة من العدم القسري.
الحقيقة غير الافتراضية هي أنه كلما تجاوزت التكنولوجيا الرقمية مسافة إضافية نحو تطوير برامجها والارتقاء بمهارات الكومبيوتر، ازداد هامش «الافتراض» في بنية هذه «الحقائق» الافتراضية. إنها تصبح أقدر على نفي ذاتها وتغيير وجهها واستبدال مناهجها التقنية بأخرى، وعلى مدار الساعة. افتراضيتها نابعة من كونها ليست ثابتة. بمعنى أنها ليست متحجرة أو جامدة. إنها تبحث دوماً عما يسبق ذاتها بذاتها. هي لا جوهر لها محدداً، محدوداً، زمانياً ومكانياً، لأنها تكتسب لنفسها، ذاتياً، جوهراً جديداً، لم تكن متوافرة عليه من قبل.
هل هذا يُفسر، بطريقة أو بأخرى، تدنّي نسبة المدمنين الشباب على المخدرات في بريطانيا، مثلاً؟.
بمعنى آخر: هل استطاعت «الحقائق» الافتراضية، التي يحياها ويتعايش معها شباب بريطانيا - مثلاً - عبر الإنترنت، وأدوات الاتصال الأخرى مثل «الفايسبوك» والـ «بلاك بيري»، أن تجتثّ وتمحو من أدمغتهم الحقائق الواقعية الثابتة التي وجدوا آباءهم عليها، ما استدرجهم إلى التّواؤم مع «الحقائق» الافتراضية، مُتخلين عن المخدرات كوسيلة للهروب الواقعية الثابتة؟.
نقلت صحيفة «الإنديبندنت» البريطانية (30-9-2012 م) عن أحد الخبراء أن شباب اليوم هم أكثر اهتماماً بمتابعة صفحاتهم على «الفايسبوك» والانشغال بـ الـ «بلاك بيري»، من تعاطي المخدرات والتداول بها.
وأشارت الصحيفة إلى أن نسبة جريمة المخدرات في إنكلترا وويلز انخفضت، منذ عام ونصف العام، من ثلاثة أشخاص إلى شخص واحد من بين خمسة، تتراوح أعمارهم بين 16 و24، كانوا يتعاطون المخدرات، التي سجل الطلب عليها انخفاضاً هائلاً وصل إلى النصف منذ العام 1998م.
طمأن (مارتن بارنز) الرئيس التنفيذي لشركة «دراغ سكوب» إلى «أننا وصلنا اليوم إلى حقيقة أن الشباب يتواصلون ويُعبِّرون عن أنفسهم بطريقة مختلفة، بعيداً عن المخدرات، بكل أنواعها، بفضل الكومبيوتر ووسائل التواصل الاجتماعي».
السؤال: هل تستمر نسبة تعاطي المخدرات بين شباب العالم في الانخفاض، طالما أن أدمغتهم تحاول أن تعرف أين تنتهي الحقيقة، بقيمها المتعارف عليها في عالم اليوم، وأين تبدأ الحقيقة «الافتراضية»؟.
الإجابات ستتْرى بمرور سنوات الألفية الثالثة الراهنة.
Zuhdi.alfateh@gmail.com