لا غنى لأيّ بلد عن صَوْغ رؤية مُحدّدة، وتحديد أهداف ناصعة الوضوح لسياسته الداخلية والخارجية. ولا يُستهان بأهمية أن يتمتّع من يتصدى لمثل هذه المهمة بخيال واسع وقدرة حكيمة على توقّع سيناريوهات موضوعية عملية واقعية مرنة للخطط التي يُعدّ من أجل المستقبل.
قلّةٌ تعي- عمليا- أن الغد قائم في ثنايا اليوم، وأن المستقبل مُتجذرٌ في تربة الحاضر.
إن الإعداد لعقود السنين المقبلة مُمكن، مع الإقرار بأن التكهّن بالمستقبل ضربُ مُحال. الغد آتٍ حتما، وعليه يُصبح الحذر فضيلة، والإعداد له واجبا.
ولئن كان الحكيم يُدرك ما في اليوم والأمس قبله، فهو لا يستطيع التكهّن تفصيلاً نوعياً بما يحمله الغد.
هذا يبعث على سلوك طريق المُصانعة والدّراية معاً، أي الدبلوماسية التي تُؤمّن الكفاف والكرامة معا أيضاً، وسط عالم مُتفجّر، منذ سقوط حائط برلين وانتحار الاتحاد السوفياتي. في هكذا براكين من الأحداث الملتهبة، على مستوى العالم، مع محاولات الإخصاء المتعمد لعقل الإنسان وروحه، إنْ شئتَ السلم تحصّنْ، أي استعد للحرب، علمياً واقتصادياً ومعرفياً وعسكرياً، وتهيّأ لها، لتكون أهلا للحياة في المستقبل.
كثرٌ لم يفهموا، بعد، لِمَ طرقَ القرن العشرون الماضي أبواب القرن الحادي والعشرين الحالي مُبكراً، وتحديدا في العام 1989م، ساعة انهيار حائط برلين، جنباً إلى جنب تأجيج الثورتين العلمية والصناعية، على نحو غير مسبوق في التاريخ، ما غيّر هيئة المجتمع الحديث تغييراً بنيويا.
العولمة قطّعت مفاصل الأسواق الوطنية وفكّكتها، ووسّعت الفجوة بين المُعولِمين (بكسر اللام الأخيرة) والمُعولَمين (بفتح اللام الأخيرة)، فازداد التنافس المُتشارس، وخفَتَ العطف، ونامت الشفقة، وماتت المحبة، وتمّ الطلاق بين المعلوماتية والمعرفة، وانقسمت العائلة، ووهنت المدرسة، ودبّت الشيخوخة في أوصال شعوب، وتألّقت الحيوية الإنتاجية المُتجددة في أوصال شعوب أخرى.
حينما نتذكّر القلقَ من المستقبل الذي أربكَ حياة (توكفيل)، والحذرَ منه الذي دعا إليه (فرويد)، وتهكمات (كانيتي) على أحداثه، وحدْس (آينشتاين) بشؤمه، نتأكد من جديد أن لا ريحَ مُؤاتية لمنْ لا يعرف إلى أين هو ذاهب.
Zuhdi.alfateh@gmail.com