وزَّع الله طبائع البشر عليهم، كما وزَّع أرزاقهم، وجعل لهم عقولاً يتخلَّقون بها؛ لكي يتعاملوا بينهم في أنحاء المعمورة، حتى تستقيم أحوالهم.. وهذا في مفهومه العام، كله بتقدير الربّ الكريم ولحكمةٍ أرادها.
يقول سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (13 سورة الحجرات).
فهم بتكوينهم الجسماني والأعضاء، ووظائف هذا الجسم، متساوون، ما عدا الوظائف التي تتعلق بالرجل، فهي تختلف عما هي لدى المرأة المتعلقة بمهمة في الحياة {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} (36 سورة آل عمران).
لذا نجد الدين الإسلامي في التكليف الشرعي والعبادات، كما أخبر صلى الله عليه وسلم “بأنهم عباد الله خلقهم الله حنفاء، ولكن اجتالتهم الشياطين”. وعلى الفطرة هذه لمن ثبت على دين الله الحق، من أراد الله لهم السعادة، وظل من كتب الله عليه الشقاوة {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} (56 سورة القصص).
ومن هذا نجد أن كثيراً من أمم الأرض لم تصلهم جيوش الإسلام في الفتوحات، وقد انقادوا بفطرتهم للإسلام، في أطراف الدنيا، رغم التحديات التي تصرفهم عنه، كما هو الحال في شرق آسيا وجنوبها، وفي إفريقيا، وأجزاء من غرب القارة الأوروبية، وفي الجزر النائية، وأكبرها أستراليا، بل في كل مكان على وجه الأرض.
وإذا سأل الإنسان كيف دخل البشر هنالك وهناك الإسلام، تجد الجواب بحسن الخلق وطيبة التعامل مع من احتكوا به من المسلمين وغيرهم؛ حيث أعجبهم الصدق في التعامل والوفاء بالوعد والأمانة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، وقد مدحه ربه بقوله سبحانه {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4 سورة القلم)، وقد سألته عائشة رضي الله عنها “من أدّبك يا رسول الله؟ قال: أدّبني ربي فأحسن تأديبي”، وكانت تقول: كان خلقه القرآن. فقد جعل الله التعارف بين البشر في هذه الحياة آباء وأولاداً، أسراً وقبائل، شعوباً وأفخاذاً، وذلك حسب بيئاتهم وأماكن تجمعاتهم، وما كان هذا إلا من طبائع البشر في التآلف؛ لأن التعارف هو أساس العلاقات البشرية، والتآلف ركيزة التعارف، وتمكين الرابطة والمحبة، مع حسن الخلق والأمانة. وإذا كان علماء الاجتماع يقولون من واقع تعرفهم على طبائع البشر بأن الإنسان مدنيّ بطبعه، وأنه يحب الاجتماع والمؤانسة، فما ذلك إلا أن من يدرس طباع ما خلق الله على وجه الأرض، من أجناس بشرية، مهما تغيرت ألوانهم، أو تعددت لغاتهم، لا شك سيجد قاسماً مشتركاً بين بني آدم في كل مكان، بحب الألفة والمعاشرة، والرغبة في الاندماج مع الآخرين، وعطف بعضهم على الآخرين؛ لأن الإنسان يألف ويؤلف.
وهذا مما يجعل الإنسان يختلف عن الحيوان، الذي يعتدي في عالمه القوي على الضعيف، ويأكل الكبير ما هو أصغر منه.
وحبل الأمان يمتد بين البشر على اختلاف مواقعهم من الأرض، والطبع الذي سلكه سبحانه في نفوسهم يدفعهم للبحث عن سبل المودة المؤلفة للقلوب، فيساعد بعضهم بعضاً، ويهتم طرف بشؤون غيره، وتتقارب المشاعر في شؤون الحياة التي تنظمها العقيدة، فيجد صاحب المعتقد الآخر أن ما تتطلبه النفوس قد توافر في الإسلام، إذا أحسن عرضه بالقدوة الحسنة، ليجذب الناس لدين هذه سمات أتباعه، فيتبعونه محبة وتأثراً.. يقول الشاعر:
الناس للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدمُ
ولئن طغت طباع على طباعٍ، وآثرت فئة من البشر التعالي والتعاظم على فئة أخرى، فما ذلك إلا من اختلال الموازين الباطنية في وجدان الإنسان، ذلك الميزان الذي لا يضبط توازنه إلا عقل راجح، وحكمة راشدة، ولا يسير العقل ويرشد الحكمة إلا التشريع الرباني، والهداية الدينية، التي تجعل على القلب حارساً عن التجاوز، وموجهاً إلى كل عمل حسن، وهذا قد كفله الإسلام، وأدب رسوله الأمين عليه {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (159 سورة آل عمران).
وقد وقر هذا المدلول في قلوب أتباع نبي الله، عقيدة صافية، وعملاً يحتذى، يشعرون من خلاله بما يدعو إليه دينهم الذي شرح الله صدورهم له، وجمع عليه أمرهم، إدراكاً لدلالة مقولة الرسول للأنصار “ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي؟ ألم أجدكم متفرقين وجمعكم الله بي؟” وما ذلك إلا أن الإسلام يرسّخ الإخاء، ويمكّن التعارف، وينمّي حب الخير بين الناس، ويجعل القلوب تتقارب.
هذا المبدأ تتأصل على قاعدته المحبة “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرَّج الله عنه كربة من كربات القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة” متفق عليه.
وقلوب البشر في تكوينها الخِلقي واحدة، شكلاً وضخاً للدم، وأعضاء داخلية وخارجية، وعدداً لدقات القلب اليومية، لكن الطباع التي تنبئ عن صاحبها، والأعمال التي تبرز على جوارحه، مشياً بالقدمين ونوعية الهدف المتجهة إليه، وبطشاً باليدين، وما ينتج من ذلك، ونظراً بالعينين، وتأثير ما يؤدي إليه، وسمعاً بالأذنين، ونطقاً باللسان، وكل عضو في الإنسان، بما يتركه من أثر لدى الآخرين، من حسنٍ أو قبحٍ، وغيرها من أمور تختلف في المقصد والغاية، بين إيجاب وسلبٍ، بحسب ما يوجه إليه ذلك القلب الذي يسميه بعضهم مَلِك الجوارح؛ فإن كان هذا القلب مستجيباً لشرع الله، متعمقاً في فَهم ما يدعو إليه دين الإسلام، اهتدى مع صاحبه إلى الطريق المعبَّد، وأوصله لداعي الخير، وإلا حصل العكس كما في الحديث “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا إنها القلب”. وفي الحديث الثاني جاء في صفات المؤمنين الذين يتراحمون فيما بينهم ويعطف بعضهم على بعض “كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى الجسد كله بالسهر والحمّى” من حديث رواه البخاري. لأن من كان في حاجة أخيه يكون الله في حاجته.
فهذا إحساس دقيق في الجسم البشري، عميق الأثر، ويؤصل رابطة الألفة، ويمكّن المحبة أكثر من رابطة الأسرة.
أما إذا كان ذلك القلب خالياً من رابطة العقيدة، وضعيفاً في الحصيلة الإيمانية، التي تمكنها رابطة الإسلام، فإن الطبائع تتنافر، والمحبة تتحول إلى بغضاء وشحناء، وتتحرك العصبيات العمياء، كما قال الشاعر:
إن القلوب إذا تنافر ودُّها
مثل الزجاجة كسر لا يجبر
فيُظلم الضعيف، وتكثر العصبيات المقيتة، التي نهى عنها الإسلام وحذّر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل قوله “إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث”، وقوله “ولا تحسّسوا ولا تجسّسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً. المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه، كل المسلم على المسلم حرام: ماله ودمه وعرضه. التقوى ها هنا (قالها ثلاث مرات للأهمية)، وأشار إلى قلبه”. وفي رواية: “ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه” رواه مسلم.
فهذه الخصال قاعدة مكينة في التعامل؛ لأنها تحث على المثالية والخير، وصلاح القلب الذي بصلاحه تصلح الأعمال، وتسعد المجتمعات، ويأمن الناس على أموالهم وأعراضهم. وبالبُعد عما أدَّب رسول الله من خصال حميدة أمته يفسد المجتمع، وتكثر الآفات.
يقول سيد قطب في كتابه التفسيري في ظلال القرآن، وفي تفسيره للآية الكريمة التي جاءت في مطلع هذا الحديث:
“يا أيها الناس المختلفون أجناساً وألواناً، المتفرقون شعوباً وقبائل، إنكم من أصل واحد فلا تختلفوا، ولا تتفرقوا، ولا تتخاصموا، ولا تذهبوا بدَداً.
يا أيها الناس، والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم من ذكر وأنثى، وهو الذي يطلعكم على الغاية، من جعلكم شعوباً وقبائل، إنها ليست التناحر والخصام، إنما هي التعارف والوئام، فأما اختلاف الألسنة والألوان، واختلاف الطباع والأخلاق، واختلاف المواهب والاستعدادات، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق، بل يقتضي التعارف والتعاون، للنهوض بجميع التكاليف، والوفاء بجميع الحاجات، وليس للون والجنس واللغة والوطن، وسائر هذه المعاني، من حسابٍ في ميزان الله، إنما هنالك ميزان واحد، تتحدد به القيم، ويُعرف به فضل الناس {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
والكريم حقاً هو الكريم عند الله، وهو يزنكم عن علم، وعن خبرة بالقيم والموازين {إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبير}، وهكذا تسقط جميع الفوارق، وتسقط جميع القيم، ويرتفع ميزان واحد، بقيمة واحدة، وإلى هذا الميزان يتحاكم البشر، وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشر في الميزان.
وهكذا تتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض، وترخص جميع القيم، التي يتكالب عليها الناس، ويظهر سبب ضخم واضح للألفة والتعاون، ألوهية الله للجميع، وخلقهم من أصل واحد، كما يرتفع لواء واحد، يتسابق الجميع ليقفوا تحته، لواء التقوى في ظل الله.
وهذا هو اللواء، رفعه الإسلام لينقذ البشرية من عقابيل العنصرية للجنس” (في ظلال القرآن 26: 143).
فسبحان مقلب القلوب، وموجه البصائر، ما أعدله في حكمه وما أبدعه في خلقه، فهو سبحانه مصرف أحوال البشر، لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء؛ لأن الواجب إدراك المعاني والتوجيهات من مصدرَيْ التشريع في الإسلام: القرآن والسنة. يقول عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه: إذا قرأت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} فأرعها سمعك؛ فهو إما خير تُؤمر به، أو شر تُنهى عنه.
mshuwaier@hotmail.com