كان لتلك الطالبة بقسم الاجتماع بجامعة الملك سعود ابتسامة جذلى تخرج على سلطة الجاذبية بسحرها وتحلِّق بعيداً عن سماء الفصل.
وكان لها ابتسامة خافتة تشي بشيء من السخرية ومرارات الخيبات في نفس الوقت.
على أنّ البنت في كلا الابتسامتين كانت لا تحاذر أن تجاهر بما في عينيها من توقُّد الذكاء وتوق المستقبل وانحياز إلى العلم.
ولم تكن تلك الطالبة إلاّ منى اليوسف، نعم منى اليوسف بعودها الرهيف ومحياها الحيي وضفائرها الطويلة إلى ما بعد عيون الأحساء، وحلمها الوطني المتقدم عدّة أجيال على سنوات عمرها التي لم تتخط العشرين.
كانت منى اليوسف قادمة من القطيف للدراسة الجامعية يحدوها زمرد الأمل بما لا يقل عما بي، نخله وبساتينه وناسه وشمسه وهوائه من طيبة وأنس وأشواق.
وفي الواقع أستطيع أن أكتب كلاماً لا يقل استشرافاً عن رقية الهويريني ونوال الحيدري وأنوار أبوخالد وجواهر الصنات وبدرية البشر ونبيهة جار النبي وأمل حموده وسوزان الغانم ودينا الجودي ومنى الغريبي وسهى طويل وجواهر آل الشيخ، وباقة أخرى كبيرة ومتنوّعة من طالبات قسم الدراسات الاجتماعية الضاجات بشهوة المعرفة، حين كنت أقوم بتدريسهن «مجتمع عربي سعودي» وعلم اجتماع المعرفة وعلم اجتماع الأدب، وأنا للتو خريجة جديدة من أمريكا لتلك الحقبة المفعمة بالآمال والتفتح من حياة جامعة الملك سعود منتصف الثمانينات الميلادية.
ومما يفتح الشهية للكتابة أنّ الكثيرات من أولئك الطالبات قد أصبحن بفضل الله أعلاماً في التعليم والتعليم الأكاديمي وفي الاجتماع وفي مواقع أخرى بلياقة وطنية ومعرفية عالية.
وإذا كنت قد بدأت فعلاً قبل مدة في الكتابة عمن عايشتهن من رفاق الدرب خاصة النساء ممن تماشينا معاً أو سبقت أو سبقنني، بعنوان الكتابة على مشراق النساء, وكان مما نشر بعض منه ما كتبته عن دينا الجودي وعواطف القنيبط وثريا عبيد وسلمى الجيوسي ومعلِّمتي بالابتدائي نها العبوة وأمي، فإنني بقدر ما أنا معنيّة باستكمال هذا العمل ككل، فإني معنيّة اليوم بإضاءة أحد أوجهه الفذّة المتمثلة تحديداً في تجربة منى اليوسف الشجاعة على المستووين المعيشي والكتابي.
على أني لا بد أن اعترف هنا بالفضل لمنى أو بالأحرى للسيدتين السامقتين مريم وفاطمة صاحبتي البطولة المطلقة في حياة البطلة كما سنرى لاحقاً.
إذ إنه بالرغم من حرصنا المستميت منى وأنا على ملاحقة جذوة العلاقة الشفيفة بيننا عبر القارات التي شبت عبر السنوات على طوق علاقة الأستاذة بالطالبة وتحوّلت إلى علاقة صداقة وطيدة ومستقلة، فإنّ هذه الكتابة لربما بقيت معلّقة لو لا أن علقت منى اليوسف قناديل كتابها الأول على ظلمة السرطان التي كنت أمر بها فأضاءت روحي كما أضاءت جنبات الوطن من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه.
حملت منى اليوسف إليّ الكتاب بنفسها فكان بحيرة استشفاء من حبر حر و»مرة وحلتيت» وسدر مصفى.
والمفارقة الجميلة الأخرى التي لا أعتقد أنّ لمنى يد فيها، أنّ الكتاب صدر بالتزامن مع اندلاعات الربيع العربي، حين كان لايزال ربيعاً بالمعنى السيسيولوجي والشعري لا بالمعنى السياسي وحسب.
أما المفارقة الثالثة التي لا تخلو من إغراء تعدّد القراءات لها، فهي أنّ الكتاب صدر باللغة الإنجليزية.
In the shadow of her voice.
A memoir of an Arab Women written by Muna Alyusuf.
Produced by The Choir Press،Gloucester لا أجد أنّ الترجمة الحرفية لعنوان الكتاب «في ظل صوتها» تشفي غليل المعنى العميق للعنوان، ولكن بما أنّ أيّ ترجمة لا تخلو من خيانة كما قالت غادة السمان يوماً، فإنني سأكتفي بها الآن على أني لا أعد بعدم محاولة ارتكاب خيانة أكثر حذقاً في محاولة البحث عن ترجمة عربية للعنوان أكثر تعبيراً عن المعاني الفارهة للعنوان وللكتاب معاً, كأن يكون «تسابيح صوتها» أو سواه من العناوين الأكثر اشتقاقاً وقرباً من نسيج الكتاب وتربته.
ومع ذلك فمنى تتخلّى في العنوان عن غواية النشر بالتنازل عن إضافة كلمة مذكرات امرأة سعودية، لتكتب مذكرات امرأة عربية في انحياز واضح لتحرير الكتاب، مما اعترى الكثير من الكتب المترجمة أو المكتوبة باللغات الأجنبية من تسليع المنتج، عبر توظيف تصنيفات الهوية المسبقة وتنميطها.
على أنّ هذا الوعي في عنوان الكتاب بالتمرّد على التنميط، ليس إلاّ تلميحاً بما يبطنه الكتاب من معالجات جريئة ومعمّقة لالتباسات الهوية وانقاساماتها وتنميطها, بأنواعها، أي ما يخص هوية النوع الاجتماعي، وهوية المذهب والهوية الوطنية والهوية الحضارية، في محاولة جادة وتجديدية تبعث على الدهشة.
وأختم مقال اليوم بتوجيه تحية إعجاب واعتزاز لمنى على هذا الجهد المتوّج بحب الوطن وبعشق الحق والجمال.
كما أختم بالمقاطع العربية الشعرية المعبّرة التي جاءت على غلاف الكتاب:
انت فاطمتي
فاطمة لبداياتي
وفاطمة لنهاياتي
وفاطمة لحكاياتي
انت فاطمتي
أتأمل وجها يشابه همي
وأنصت لصوت يشابه صمتي
أتأرجح بين طعم الحلم وطعم المستحيل
بين احتمالات صمت وانكساري
في عتمة السكون تتلبسني امرأة بطعم الصمت ومرارة الهزيمة
تتلبسني امرأة تقبل صدى صمتي فيهزمني خوفي عند بوابة الحقيقية.
***
على أنني «لا تخافو» لن أكتفي بهذا النّزر البخيل من تناول هذا الكتاب السَّخي فليست ماوية أقل تبذيراً من الطائي.
Fowziyaat@hotmail.comTwitter: F@abukhalid