تجاوزت ظاهرة الخوف من مستقبل الأيام حدودها الطبيعية، وأصبح التعبير عنها ظاهراً في النبض الثقافي وفي آهات الهمس الشعبي، الكل أصبح في حالة قلق مما قد يحدث في صباح الغد، لكن هناك من يكابر ويحاول توجيه أصابع الاتهام في كل اتجاه، فتارة تتجه إلى الإخوان المسلمين، وتارة أخرى للغرب، وفي الغالب يرجعها بعضهم إلى المؤامرة التي يتلاعب بخيوطها مجهولون يهدفون إلى زعزعة الاستقرار وإثارة الفتنة، لكن الواقع يتحدث عن عصر مختلف له قواعد متغيرة، وتحكمها سياسات غير ثابتة، وذلك لأن السياسة لعبة السلالم المتحركة، الذي لا يجيد فن هذه اللعبة الماكرة يخسر بسبب جموده على ثوابت خسرت قواعدها بين الناس، وأصبحت بمثابة الشعارات التي فقدت مصداقيتها أمام لغة الواقع وتحدياته.
في العصر الحديث لم تعد الحدود سداً منيعاً ضد انتقال الأفكار والظواهر، فقد تهاوت أمام المد الاتصالي الكاسر، وشئنا أم أبينا أصبحنا عرضة لمختلف الظواهر الإنسانية في العالم، بل وصلنا إلى مرحلة الاستسلام للمد الإنساني الكاسح بشره وخيره عبر الأثير والإنترنت، ووصلت بعض نصائح علماء الدين في بعض الأحيان إلى الاستجداء بعدم الاستجابة للأفكار الوافدة، في حين اختار آخرون أسلوب التهديد والعنف كطريقة لمنع الناس من التجنيد والانسياق خلف بعض الظواهر البشرية، ولكن لا جدوى، فالعاصفة أقوى من أن يوقفها وعظ أو ترهيب.
جاءت أحداث بعض الدول المجاورة بمثابة الإنذار الأخير أمام دول المنطقة، فالتغيير الشعبي صار حقيقة، والسياسي الفطن هو الذي يسبق الأحداث، ولا ينتظر هبوب العاصفة، ولكن يتقدم الصفوف، ويعمل على إدخال المجتمع في عصر جديد، ثم يراقب التغيير من أعلى، وبذلك لا يلوث يداه بدماء الناس، ولا يستجيب لدعاة الكراهية والعنف، ولكن يقف شامخاً أمام العاصفة، ولا ينحني بسبب شدتها، ولكن يحولها بقرارته إلى نسيم ربيعي دافئ، وذلك يدخل في العبقرية السياسية التي يخلدها التاريخ، وتبقى آثارها مضيئة طول الدهر.
ليست ظاهرة الربيع العربي فكرة مستوردة، ولكن نتاج متغيرات كبيرة حدثت في الهامش، ظهرت كمتمردة على الأنظمة بسبب عدم إعطاء تلك المتغيرات بعض الرسمية، وتبحث الآن عن منفذ شرعي للخروج إلى السطح، وكثير منهم ينتظر تلك الفرصة ليخرج معبراً عن آرائه المكبوتة في الهامش، وقد تحدث يوماً ما كالبركان الكامن الذي يثور في لحظة ثم يحطم كل شيء حواليه، وذلك هو مصدر الرعب لكثير من الناس الذين يبحثون عن الاستقرار والعيش الهادئ، وذلك هو المنعطف الذي قد يؤجل مسيرة الوطن لعقود، لذلك يظل الخيار الأمثل هو الإصلاح التدريجي الواضح والشفاف، الذي يتعامل مع الناس كمصدر للوعي الجديد، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يُدركه!
تعد حركات الإسلام السياسي من أهم المؤثرين في المرحلة الحالية، وقد نجحوا بالفعل في قلب المعادلة في بعض الدول، ولا يقتصر مفهوم الإسلام السياسي على رموز الإسلام الثوري، ولكن أيضاً يشمل رموز الإسلام القمعي، والذين يحرضون على قتل الناس، ويدعون للجمود ورفض التطور، وذلك وربي في غاية الخطورة على مصالح الأوطان وعلى علاقات المواطنين بالسلطة، مما قد يزيد من حدة التطرف في الجهات الأخرى، والمثير في الأمر أن الوعد بالديمقراطية أصبح لعبة رموز الإسلام السياسي، وصاروا من دعاتها بعد أن رفضوها لعقود، ولم يطالبوا بها إلا بعد أن أصبحت مطلباً شعبياً، وبالتالي أجادوا لعبة الكراسي السياسية، بعد أن اختطفوا كرسي الديمقراطية من الليبراليين، وكسبوا الشعبية في المرحلة الحالية.
ما تحتاجه دول الخليج في هذه المرحلة مفكرون سياسيون يملكون الحكمة في إدارة الأزمة الحالية بدلاً من لغة التحدي والإصرار على امتلاك الحقيقة، ويلبون مطالب الناس وأولياتهم بدلاً من مناهضتهم في الشوارع، على أن تقبل السلطة بعض الخسارة الشخصية في سبيل أن تكسب التاريخ والمستقبل، وأن تتعلم لغة خطاب جديدة تتسم بالتواضع والواقعية واحترام الحقوق والقانون.