المشتغلون في شأن التعليم العالي متفقون على أن للأستاذ الجامعي أدواراً مفترضة ومنتظرة منه، مشكلة بذلك رؤية شاملة له، والمتناغمة أو المتوافقة مع أهداف التعليم العالي الثلاثة: من تعليم، وبحث علمي، وخدمة مجتمع. فهم في المقام الأول باحثون، ودارسون. وفي الوقت نفسه معلمون ومربون
للأجيال، وأصحاب مسؤولية تجاه مجتمعهم. ولكن مساهمتهم بشكل فعال بمسارات أركان هذا المثلث العملي والمجتمعي في تصادم وتجاذب دائم مع عدد من المعوّقات التي سنتأتي عليها اقتضاباً من خلال هذه الإطلالة.
للأستاذ الجامعي دور حيوي، فهو بمثابة العمود الفقري في هيكل التعليم الجامعي، وذلك بالرغم من التغير الوظيفي لأطراف العملية التعليمية، والاختلاف النوعي في أساليب المعرفة الحديثة. وهذا الدور اختلط وتداخل ولم يعد دوراً كما كان في القرن الماضي. هناك تصور ناقص لدور الأستاذ الجامعي، وخلط بين دوره ودور المعلم في مراحل التعليم العام. وهذا التصور والخلط سببا عاملي ضغط على الأستاذ الجامعي مما حدا به إلى أن يتوارى عن أداء دوره المفترض، وتقمص دوراً يقترب كثيراً من دور معلم في مراحل التعليم العام المتمثل بممارسة عملية التدريس بمفهومه التقليدي المنطوي على الشرح والمناقشة البسيطة، والتلقين، وحل التمارين، وتحقيق الهدف الأدنى، من أهداف التعليم العام من خلال تزويد الطلاب بأساسيات المعرفة المتخصصة.
إن دور الأستاذ الجامعي - الذي لم تسهم الظروف الحالية بأدائه على أكمل وجه - يتجاوز ذلك إلى ميادين أرحب تنطوي على تفجير طاقات الطلاب، وتوجيه قدراتهم، وتوسيع آفاقهم ومداركهم، وبناء وتطوير القدرات النقدية والتحليلية لديهم، والإسهام في تكوين شخصياتهم، وبناء وعيهم الثقافي والاجتماعي والإنساني، ودعم استقلالية تفكيرهم، ومساعدتهم في التعرف على شخصياتهم، ومجالات إبداعهم، وميادين تفوقهم وإكسابهم القدرة على التعامل بمنهجية مع مقرراتهم الدراسية، وتنمية الوعي الناقد لديهم، وتعزيز قدرتهم على الفرز والتمحيص المعلوماتي، وتزويدهم بمهارات يمكنهم من خلالها تطوير أساسيات المعرفة المتخصصة التي يمدهم بها، ويجعلهم محور العملية التعليمية ومصدرها، ويعمل على بناء ذهنيات علمية وإبداعية تتناسب مع متطلبات المرحلة الحالية والتحديات التي تمليها. وللأستاذ الجامعي أيضاً دوره في توجيه سلوك الطلبة، وتعزيز نموهم الشخصي والمعرفي وتشجيعه. والأستاذ الجامعي الفاعل الرئيس في تحقيق الأهداف الكبرى التي تسعى مؤسسات التعليم العالي جاهدة إلى تحقيقها متمثلة في عملية نقل المعرفة، وتوصيلها إلى الأجيال الجديدة، ومساعدتهم على تطبيقها، واستخدامها، واستنباط الجديد منها.
أما دوره الاجتماعي المأمول فلم يتحقق بسبب انكفاء الأستاذ الجامعي على نفسه وهمومه الخاصة، وهي الحالة التي دفعته إليها دفعاً المجتمع نفسه؛ فهذا المجتمع لم يتح له الفرصة كاملة ليؤثر فيه، ولم يمنحه الفرصة ليمارس دوره كاملاً في إصلاحه وتوجيهه، وتخريج كوادر قادرة على المشاركة الفاعلة في مسيرة التنمية من مواقعها في القطاعات المختلفة، وهذا المجتمع لم يشعره أنه متميز، ولم يمنحه القدر الذي ينتظره من المجتمع، ومن هنا يمكن القول إن المجتمع ساهم في تعطيل وتحجيم دور عقل المجتمع، الأستاذ الجامعي.
يعتقد عدد كبير من أساتذة الجامعات السعودية أن مؤسسات التعليم العالي التي ينتمون إليها لم تهيئ الظروف المناسبة لهم ليقوموا بدورهم البحثي على الوجه الأكمل، والسبب في ذلك يعود إلى وجود عوائق متعددة المصادر متمثلة بنقص واضح في الدعم المادي، والمعنوي، والإمكانيات، والعوائق التنظيمية الإدارية، وعائقي عدم التفرغ، والعبء التدريسي الكثيف، والنظرة القاصرة من قبل كل من: الأستاذ الجامعي نفسه، وسياسة التعليم، والمجتمع برمته.
فهناك غياب كامل للمعامل المهيأة والمجهزة بالأجهزة الحديثة، والمعدات اللازمة، وبالكوادر البشرية المؤهلة لمساعدتهم في إجراء بحوثهم ودراساتهم وجامعاتهم أيضاً ليس فيها المكتبات المناسبة سواء التقليدية أو الرقمية التي تقدم لهم الخدمات المكتبية المشتملة على التكنولوجيا المساندة التي تدعم الوصل والاتصال بمحتويات المكتبات الرقمية العالمية، وذلك النوع من المكتبات التي تهيئ لهم الأجواء المناسبة حتى يؤدوا دورهم البحثي المنتظر منهم، ولم يتم إمدادهم بالباحثين المساعدين المتميزين.
ويعتقد الأساتذة الجامعيون أيضاً أن هناك عقبة أخرى تقف في وجه مسيرتهم البحثية والمتمثلة بغياب الدعم أو الإنفاق المادي المناسب على البحث العلمي، فاللائحة الموحدة - على سبيل المثال لا الحصر - التي صدرت عام 1419هـ للجامعات السعودية لم تعط البحث سوى 1200 ريال للباحث الرئيس مقابل البحث الذي يجريه، و1000 ريال للباحث المشارك. وهذه الأرقام أو الحوافز الضعيفة تقودنا إلى تقرير حقيقة مرة وهي أن المبالغ المخصصة للبحث العلمي في جامعاتنا السعودية ضئيلة جداً، وهو ما أوجد حال العزوف الكبير عن إجراء البحوث والدراسات من قبل الأساتذة الجامعيين، ولا غرابة فهذه الأرقام ولدت من رحم حجم ما يصرف على البحث العلمي في جامعاتنا اليوم والتي تبلغ ما يقارب المليار ريال، ونصيب بعض الجامعات الكبيرة من ذلك مثل جامعة الملك سعود يراوح بين 15 و 20 مليوناً فقط. وهذه أرقام ضعيفة جداً عند مقارنتها بما تصرفه الدول الأخرى على البحث العلمي، فبمقارنة سريعة نجد أن ما نصرفه اليوم على البحث العلمي يمثل 0.25 من إجمالي دخلنا القومي في حين أن المتوسط العالمي يصل إلى 2%، ونحن سنصل إلى هذه النسبة المتوسطة العالمية بعد نحو عشرين عاماً من الآن. وهذه النسبة الضئيلة خولتنا للدخول ضمن خريطة البحث العلمي العالمية السنوية متذيلين بالمشاركة مع إندونيسيا القائمة التي تضم أربعين دولة.
هناك الكثير من الممارسات الإدارية والتنظيمية الجامعية التي حالت دون أداء الأستاذ الجامعي لدوره البحثي، فجامعاتنا ينقصها وجود سياسة بحثية هادفة ومحددة، ذات تنظيم وتخطيط إداري سليم ودقيق ترسم وتحدد آفاق الإطار البحثي الذي يعمل ضمنه الأستاذ الجامعي الباحث، فالتخطيط الإداري المتكامل الذي يضع كل عنصر من عناصر البحث ذات العلاقة بالنواحي التنظيمية والإدارية في الحسبان لا وجود له في أروقة جامعاتنا. ولا وجود للائحة موحدة ومنظمة لأنشطة الباحثين محتوية على أهداف واضحة يرجى تحقيقها في فترة زمنية محددة من قبل الأستاذ الجامعي، وليس هناك تحديد للأهداف الأساسية للبحث العلمي التي ينتظر من الأستاذ الجامعي الباحث تحقيقها بصورة متواصلة حتى يمكنه الوصول إلى مراتب التميز والريادة في ميدان البحث في حقله العلمي، ودفعه إلى ارتياد مجالات بحثية جديدة، وكذلك نفتقر إلى وجود آلية واضحة ودقيقة تستخدم لتحديد القدرات البحثية لكل عضو هيئة تدريس، ومجالات الاستفادة القصوى من تلك القدرات والأسس والطريقة التي يعمل بها عند تقويم الأنشطة البحثية للأستاذ الجامعي السعودي.
وإن عدم وجود هذا الأمر - أي صيغ دقيقة مقننة ومصنفة في المجالات السابقة - جعل ما يحتكم به الآن ميداناً خصباً للاجتهاد الفردي، ويطاله التغيير والتبديل من حين إلى آخر من دون دراسة متأنية، ويضاف إلى ذلك أيضاً أنه ليس هناك وضوح لصور تقديم الخدمات اللازمة لإنجاز البحوث، وعدم توفر قاعدة تبادل المعلومات، ونتائج البحوث التي تيسر للباحثين التعاون مع نظرائهم في مؤسسات التعليم العالي بخاصة والتعليم العام بعامة، وتعمل على ضمان استمرار البحوث التي يقوم بها الأساتذة الباحثون وتسهم في مد جسور ترابط بينها.
وهناك أيضاً القيود الإدارية المركزية التي حدت كثيراً من حرية الحركة البحثية للأستاذ الجامعي السعودي، فالقيود الإدارية والتنظيمية الخانقة الحالية جعلته يصرف نسبة كبيرة من وقته وماله وجهده في متابعة الأمور الإدارية والتقارير والردود على التقارير، وتلك القيود أيضاً حرمته من حرية توجيه وصرف الدعم المعطى له في الأوجه التي يراها مناسبة، وحرمته كذلك من حرية الاستعانة بمن يراه أهلاً لمساعدته في إنجاز بحثه الذي ينوي القيام به.
وللأستاذ الجامعي نفسه كذلك دور مباشر في عدم قيامه بدوره البحثي، إذ إن نظرته للبحث تقتصر على إجراء بحوث محددة، وذات هدف واضح يتمثل في استخدامها في الترقية وحسب، وعند حصوله عليها يتوقف عن أداء جزء من وظيفته الأساسية وهي إثراء مجاله في إجراء المزيد من البحوث والدراسات ذات العلاقة، وهذه النظرة القاصرة جعلت أيضاً تقديم إنتاج بحثي عالي الجودة من آخر أوليات الأستاذ الجامعي السعودي.
والسياسة التعليمية المتبعة هي الأخرى سبب آخر في تأخر الأستاذ الجامعي عن تأدية دوره البحثي المتوقع منه. فالسياسة التعليمية الجامعية المعلنة تنادي بالاهتمام بالمسارات الرئيسة الثلاثة المتمثلة بالتعليم، والبحث العلمي، وخدمة المجتمع، ولكن واقع الحال يدعو وينادي إلى توجيه الجهود، والتركيز على العملية التعليمية على حساب المسارين الآخرين. فالتدريس يأتي في سياسة التعليم العالي في المرتبة الأولى كوظيفة أساسية، ويمثل الهم الوطني الأول ومن هنا انزلقت جامعاتنا في حالة عدم تحقيق التوازن بين العملية البحثية والعملية التعليمية، أو التدريسية. ولا غرابة عندئذ عندما تخبرنا لغة الأرقام بأن أعضاء هيئة التدريس في جامعاتنا يولون 5% فقط من أعبائهم الوظيفية للبحث العلمي، فيما يولي نظراؤهم في جامعات الدول المتقدمة نحو 33% من تلك الأعباء للبحث العلمي.
والتقهقر في الدور الريادي البحثي للأستاذ الجامعي السعودي مرده أيضاً إلى النظرة الاجتماعية أو ما يمكن تسميته بثقافة المجتمع ككل تجاه البحث العلمي، فالمطلع يدرك أن مجتمعنا برمته يعاني من نقص في الوعي الحضاري تجاه البحث العلمي، وأبعاده، وأهميته في تحقيق مكاسب حضارية على مختلف الأصعدة، وهذا الموقف أو التوجه الجامعي انعكس بدوره سلباً على الإنتاجية البحثية لدى الأستاذ الجامعي السعودي باعتباره ضمن النسق الاجتماعي المحيط به.
والسبب الآخر الجوهري الذي أثر سلباً في تأدية الأستاذ الجامعي لدوره البحثي يتمثل في سببين مترابطين ببعضهما بعضاً، وهما العبء التدريسي، وعدم التفرغ، فالأستاذ الجامعي والحديث هنا عن المخلصين في عملهم والذين يسعون دوماً لتقديم الجديد والمفيد لطلابهم، والذين يمضون يومهم بين الاستعداد لمحاضراتهم، ومتابعة أوراق طلابهم وقراءة أبحاثهم وواجباتهم، وكل تلك الأعمال تستهلك الشيء الكثير من وقتهم وجهدهم وهو الجزء الذي كان من الممكن أن يصرف على عمل الدراسات والبحوث، وإضافة إلى ذلك يثقل كاهلهم بنصاب تدريسي عال وبخاصة في ظل تزايد أعداد الطلاب الملتحقين بالجامعات الأمر الذي يحول بينهم وبين توجيه طاقاتهم وجهدهم نحو عمل البحوث والدراسات. وهكذا فجامعاتنا - بسياساتها الحالية - لم تضع نصب أعينها إيجاد أساتذة باحثين متخصصين يستطيعون صرف جزء من وقتهم إلى البحث العلمي، بل أثقلتهم بعبء تدريسي يحول بينهم وبين أداء دورهم البحثي على أكمل وجه. ومتطلبات الحياة اليومية لها أيضاً نصيبها في ذلك إذ أشغلت الأستاذ الجامعي، وأوجدت حالة من عدم التوازن لديه وبالتالي جعلته غير قادر على الإنتاج البحثي، والمواصلة فيه بشكل مستمر ومتوازن.
ولا شك أن هذه الأمور مجتمعة أقصت إلى حد كبير الأستاذ الجامعي السعودي عن تأدية دوره المنوط به من إنتاج ونشر للمعرفة من خلال دراساته وبحوثه، وجعلته كذلك غير قادر على إعداد وتأهيل الكوادر البشرية ذات الوعي الثقافي والاجتماعي، ولم تمكنه تلك أيضاً ليرتقي بمجتمعه نحو مراتب العلو والرقي، ويدفع بعجلة التقدم فيه إلى الأمام.
alseghayer@yahoo.com@alseghayer