لم يكف العالم يوماً عن الوقوف في وجه الظلم والعدوان، ويغمض عينيه، كما يفعل الآن، ولم يتجاهل مأساة حرق وذبح وسحل ترتكب كما يمارس اللحظة تجاه ما يحدث لمسلمي بورما، جنوب شرق آسيا، والذين لا تزيد نسبتهم عن 15% من سكان بورما، وهم يتعرضون لانتهاك إنساني قلَّ نظيره على أيدي عصابات بوذية في البلاد، وأمام تخاذل الحكومة البورمية ودعمها المنظّم للإبادة العرقية منذ أكثر من خمسين عاماً.
لنتخيّل المأساة فقط، عبر الكلمات، لا عبر الصور الشنيعة، ولنتخيّل الحالة الإنسانية كيف هي، فهؤلاء - يا سادة يا كرام- تعرضت بيوتهم المتواضعة إلى الحرق، فمنهم من قضى محترقاً متفحّماً، خاصة الأطفال والنساء، ومنهم من استطاع النجاة من الحرائق، والهروب إلى خارج المنازل، ليقابله أفراد العصابات البوذية، بالذبح والسحل في الطرقات، أما من كان محظوظاً، وكتب له القدر أن ينجو من القتلة، فقد التقط قارباً متهالكاً، وغامر في ركوب البحر جائعاً عارياً إلا من خوفه وحزنه وأمله بالله، متجهاً إلى أقرب البلاد المجاورة، وهي بنجلاديش، التي أكملت المأساة، والحماقة الإنسانية، بأن أعادت بعض هؤلاء الناجين إلى دائرة القتلة! فأي جريمة ومجزرة مخزية في العالم أكبر مما يحدث هناك؟
جماعات القتلة، أو جماعة «ماغ» البوذية المتطرفة شنّت حملتها الأولى ضد الأقلية المسلمة، وارتكبت مجزرة نتج عنها ألف قتيل، وأكثر من خمسة آلاف جريح، وثلاثة آلاف مفقود، وتدمير عشرين قرية، وألفي منزل، وتشريد ثلاثمائة ألف بورمي مسلم، وكأنما هي حملة رسمية منظمة لإبادة هؤلاء المواطنين البورميين أو تهجيرهم قسراً، بل هي كذلك، ألا يكفي تصريح الرئيس البورمي عن هؤلاء بقوله: الحل الوحيد المتاح لهم هو تجميعهم في معسكرات لاجئين أو طردهم من البلاد. وأضاف: سنبعث بهم إلى أي بلد يقبلهم! كيف يمكن أن يصرّح رئيس دولة هكذا تصريح؟ كيف يصادر حقوق مواطنين في وطنهم وأرضهم؟ ويدّعي أنهم مهاجرون بنغاليون غير شرعيين، وهم الذين عاشوا وأجدادهم في إقليم أراكان البورمي؟
لا غرابة في ذلك، فما يحدث في بورما هو امتداد مستمر لمجازر وحشية حدثت في القرن المنصرم، كالتصفية العرقية التي حدثت أثناء الحرب العالمية الثانية وراح ضحيتها مائة ألف مسلم بورمي، وقبلها كانت مجزرة الثلاثين ألفاً عام 1938م، وبعدها حينما استولى الجيش على السلطة عام 1962م ارتكب العديد من المجازر، فهي إذن حرب إبادة عرقية مستمرة، لا تجد من العالم سوى الصمت والتجاهل المخزي.
هذا العالم الذي ضج أمام مذبحة الأكراد في العراق، وهو محق في ذلك، ووقفنا جميعاً ضد الدكتاتور العراقي آنذاك، هذا العالم الذي ما زال يبحث عن دلائل مذبحة الأرمن في تركيا زمن الدولة العثمانية، هذا العالم الذين يدين مجازر وحشية ضد الإنسانية، نقف جميعاً معه، ونؤازر كل الأقليات التي تتعرّض للظلم والاضطهاد والتعذيب والقتل، حتى لو لم تكن أقليات مسلمة، فالواجب الإنساني لدى أي مسلم يحتم عليه الوقوف بوجه الظلم والعدوان، فكيف الأمر إذا كانت هذه الأقليات مسلمة، وتنتظر الدعم والمؤازرة من مليار مسلم على هذا الكوكب؟ فهذا العالم، الذي يدين ويفتش ويتقصّى ويحاكم، هو نفسه من يصمت الآن في حضرة المذبحة الوحشية العلنية في بورما!