وأخطر شيء تواجهه الأمة في زمن التحول فشلُ هذه المؤسسات التقليدية، وعجزها عن ملء الفراغ، والحيلولة دون نفاذ دعاة السوء. وأخطر من هذا كله عجز المؤسسة الدينية عن تلقي الراية، وتوجيه المعركة، واحتواء الموقف. بل أكاد أقطع بأن المؤسسة الدينية على الرغم من ضعفها
تتآكل من داخلها، وتتفلت ألسنةُ بعض المحسوبين عليها بآراء وفتاوى وتصوراتٍ مخالفةٍ لمسلماتها الصحيحة أو الراجحة على الأقل. وإذا اجتمع الضعف والتصدع قويت شوكة الخصم، وتبدت له الثغرات المهملة. وخوفنا وتخويفنا من تلك الأوضاع غير الملائمة، ليس إحباطاً، ولا تخذيلاً، ولكنهُ تساؤل شاردٌ واستنهاضٍ ملح.
على أن هذه الأوضاع الناشئة من الحرية والشفافية حالت دون التزييف المتعمد لوعي الأمة، وأحبطت احتكار السلطة للخطاب، ومنعت من تفشي الادعاء العريض، الذي يشبه الخدر المنساب في أوصال الأمة. ومن هنا كان التعالق بين ثورة المعلومات والاتصالات من جهة، وثورة الشعوب على أنظمتها من جهةٍ أخرى. ولما كان لكل وضع خطابه، ولكل حال أسلوب حياتها، فإن المتوقع تبدلُ الخطابات الفكرية، وتحولُها، واستشراءُ التغيير، وعجزُ المؤسسات التشريعية والتنفيذية عن ملاحقة التطلّعات والتحولات.
ومن ثم كان اختياري لظاهرة تحول الخطاب الفكري بعد الربيع العربي مناسباً إلى حدٍ ما، ليكون مجالاً للحديث، والتماساً لأسلوب التعامل مع المتغير السريع والمفاجئ.
إن طائفةً من المتنفذين في مختلف المؤسسات، يتصورون أنه بالإمكان تخطي هذا المنعطف الخطير، دون استجابةٍ لمقتضى تلك التحولات، ظناً منهم أن الربيع العربي منتجٌ إقليمي، وأن لكل حدث حديث، ولكل شيخ طريقته.
ولقد يتواشج هذا الهاجس مع زعم (ابن نوح) الذي قال لأبيه: (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء). وما كان يدري إلا عاصم من أمر الله.
ولأنه لا يعلم جنود ربك إلا هو، فإن ما يجتاح العالم من ثورات مُتَعدِّدة، ومتنوعه: حسيةٍ ومعنويةٍ، إن هو إلا من جنود الله التي يسلطها على من يشاء من عباده.
ولا بد - والحالةُ تلك - من الإيمان الجازم بالتحول الفعلي للخطاب الفكري. والإيمان يقتضي التهيؤ للمواجهة الحضارية، وإعادة ترتيب كل المؤسسات، لتكون قابلة وقادرة على تخطي المنعطف الخطير.
وحين يكون التحول حتماً مقضياً، فإن واجب المسؤولين والمقتدرين ترتيبُ أوراقهم، للتعايش السليم مع هذا التحول، ولا مجال بعد اليقين للمغالطة ولا للمكابرة.
لقد أجمع المؤرخون المعاصرون للحضارات على أن داء الأمم مرجعهُ إلى: تسلط أمةٍ على أمة. أو تسلط حاكم على محكومين. أو تسلط متعالمٍ على متّبعين. وعلينا أن نفرق بين السلطة المشروعة والتسلط المحظور. ومتى ارتبكت المفاهيم، شاعت ثقافات الخنوع والتمرد في آن. فتسلط الأمم القوية على الأمم الضعيفة المستضعفةِ، المعروف لدى الفكر السياسي المعاصر بـ(الاستعمار) من الشرور المستطيرة، فهو إلى جانب استغلال الخيرات، يمارس التجهيل، والتضليل، ودعم الأقليات المتناحرة، وخلق الجماعات الضاغطة، ومن تحت عباءته نسل (الغزو) و(التآمر). وهما مصطلحان، تختلف الضحايا حول مفهومهما، وحقيقة وجودهما، أو مقدار هذا الوجود، حتى لقد أنكرهما البعض، فيما ركن إليهما آخرون، محمّلين الاستعمار كلَّ بوادر التخلف والاختلاف. ولست أشك أن خطأ الفهم لا يقل سوءاً عن إنكار الوجود، أو الاضطراب في تقدير حَجْمه. كما أن تسلط المستعمر لا يقل سوءاً عن تسلط الحكام، واستغلالهم السيء للحكم. وفوق هذا وذاك، فإن ظاهرة المتعالمين بمختلف نواقصهم التقليدية والتعصبية والجمود والتضليل، ممن يحلو لهم النبش في شواذ المسائل، تؤدي تلك الظاهرة إلى ذات المصير الذي يؤدي إليه الاستعمار البغيض أو الحكم الجائر.
وتحول الخطاب الفكري مرتبط بطبيعة الحياة المجبولة على التغير والتبدل، إذ هي كالنهر الجاري، لا يقر له قرار، وعثرات الحضارات مقترف قادة الفكر المنحرف، فحين لا يعي المفكرون السنن الكونية، يزعمون أنهم منارات يهتدى بها، ومن قبلهم قال فرعون لقومه:- (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد).
تلك الإشارات التحذيرية، لا تحول دون التحرف، أو التحيز، لمواجهة ٍحضارية، تستوعب المستجد، وتتفاعل معه، وترتب أمرها لمعايشته، أو مصالحته، والأخذ بأحسنه.
والتجديد مقتضى إسلامي، فالبشارة بِبَعث من يجدد لهذه الأمة أمر دينها حقيقةٌ إيمانيةٌ، بشر بها من لا ينطق عن الهوى، والإشكالية ليست في قبول هذه البشارة وتصديقها، ولكنها في تصور التجديد وأبعاده، وحسن إدارته، والتفاعل معه، وما فرق الأمة إلى أكثر من سبعين فرقة إلا الفهم الخاطئ لمقتضيات التجديد.
وما كنا نوده، ونتطلع إليه تهيئةَ مساحةٍ مشتركة لفهم المصطلحات. فتجديد الدين ظاهرة متفق عليها، ولكن طبيعة التجديد وأمدائه هما المعضلة. والمتعقب لأسباب تخلف المسلمين، وتقدم غيرهم، يكتشف تصورات متناقضة، لأنها منتج أفكار ذات انتماءات متعددة، ومنطلقات متنوعة.
والثورات العربية فرضت واقعاً مغايراً، من الصعوبة بمكان استيعابه، والسيطرة عليه. ولهذا ظل الشارع والساحات مصدري السلطة والتحكم، ولم تستطع الشعوب الثائرة أن تتخلص من النفس الثوري، المتمثل بالمظاهرات والاعتصامات والتجمعات والهتافات. ولم تستطع الانتقال من روح الثورة إلى سدة الحكم المدني بمؤسساته: التشريعية والتنفيذية والقضائية. ولما يزل الرأي العام في ريبة من الحكومات الانتقالية، ومن الانتخابات التمهيدية، ومن الصعوبة بمكان التخلص من رواسب الماضي، على أن التكتلات الحزبية والطائفية حين لا يروق لها الوضع، تتوسل بالاتهامات، وتلجأ إلى الشوارع والساحات، وقد لا تكون هذه الظواهر من التحولات الإيجابية، ولكنها من المعوقات التي يستفيد منها البعض داخل الوطن أو خارجه. وهذا بعض ما يقلق المتطلعين إلى ترشيد الثورة الشعبية، ولقد يذهب البعض إلى أنه ليس من شرط التحول أن يكون إلى الأحسن، أو أن يكون من النخب التي تعي ما تقول، وما تفعل، ولا يعنينا مثل هذا الاختلاف في وجهات النظر. فنحن ننظر إلى المتغير من حيث هو، ولا نشترط منتِجاً واعياً، فالأمة حين تتلبس برؤيةٍ مغايرة، تكون قد أخذت بشيءٍ من التحول، وعلى الراصد أن يعوّل عليه، بصرف النظر عن مصدره أو قيمته.
يتبع...