النسبية في الوسطية!! لا أقصد النسبية كما هي في نظرية آينشتاين النسبية، إنما أقصد المجال بين الحد الداني (الغلو) والحد العالي (التطرف) وتقع بينهما، في منتصف المسافة، تصوراتنا الاجتهادية التي نحرص أن تكون وسطية.. لتوضيح المغزى نستعين بالرسم البياني كالآتي.. لنجعل الوسطية على المحور الأفقي ونجعل هناك خطان أفقيان أحدهما شمالا يبعد عن الوسطية بمقدار عشرين جزءاً ويمثل حد (التطرف) والأخر جنوبا يبعد عن الوسطية بمقدار عشرين جزءاً ويمثل حد (الغلو) وبالتالي يكون المجال الافتراضي للوسطية أربعين جزءاً ويمكن أن يكون ثلاثين جزءا أو خمسين أو ستين... إلخ، وفيما يلي مثال من الواقع.. يعرف الزهد أنه العزوف عن الدنيا وكمالياتها ولكن من لوازم الحياة للزاهد، في زماننا المعاصر، سيارة وجوال وحاسوب شخصي، تختلف عن العمامة والدابة والحصير من لوازم الحياة للزاهد في زمن السلف.. ونظرا للفارق الكبير في مقومات الزهد بين الماضي والحاضر يتعين أن يكون المجال عريضا بحيث يتسع لاحتوائهما تحت غطاء الوسطية.. ومثال آخر، حاجة المرأة إلى مجال واسع من الوسطية يسمح لها اختيار نوع الحجاب ابتداء من كشف الوجه - كما هو في إحرام المرأة في الحج - أو غطاء كامل الوجه أو النقاب بما يناسب ظروف البيئة التي تعيشها أو ظروف العمل أو أداء مناسك الحج أو انتقالها من بيئة إلى أخرى، دون أن يتملكها شعور بالذنب بأنها خرجت عن مجال الوسطية.. إن حرص النخبة على كيانهم العلمي، يجعلهم يتمسكون بمشعل الجدل بين مؤيد ومعارض لمسائل خلافيه مزمنة، ليست من الثوابت.. والواقع يشهد أن تكرار الجدل المزمن في تلك المسائل الخلافية يشكل عائقاً لحركة الحياة إلى الأمام ودأب متعهدوها من النخبة باعتماد الآراء المتشددة حيال شؤون الحياة المعاصرة ما يجعل المرء عاجزا عن تطبيقها.
الخلاصة.. الوسطية ليست خطاً رفيعاً يتعين السير عليه وعندما تزل قدمك عن هذا الخط تقع في أحد المحظورين، إما الوقوع في منطقة (التطرف) أو الوقوع في منطقة (الغلو) إن الوسطية على العكس من ذلك، فيها من السماحة ما يجعلها مجالا واسعا يستطيع المرء أن يمارس شؤون حياته تحت غطائها دون أن يتملكه الشعور بذنب الخطيئة من احتمال انتهاك حدودها، لذا يتعين على النخبة من المجتهدين تجاوز الجدل الممارس حول مسائل خلافية من السهولة بمكان حسمها عن طريق الاستفادة العملية من سماحة الوسطية دون أن ينتقص ذلك من كيانهم العلمي.. ويتعين عليهم أيضا تقديم آرائهم كحلول عملية تساهم على التحرر من الاجتهاد المفضي إلى التضييق والمعطل لحركة التطوير ولن نستطيع النجاح دون أن نجعل مجال الوسطية بين الحد العالي (التطرف) والحد الداني (الغلو) يتسع لمخرجات العصر الحديث اللازمة لاستكمال مشروع النهضة دون خطر انتهاك حدود الوسطية.
khalid.alheji@gmail.comtwitter @khalidalheji