بعدما استقر بي الجلوس في مكتبي، أمهلني زميلي فرج أحمد حسين دقائق معدودة؛ لأستعد لبدء العمل، ثم أخبرني بأمر لم أتمالك معه حبس أدمعي التي عجزت عن إيقافها وأنا أستحضر شريط ذكريات تجاوزت 15 عاماً داخل مبنى جريدتنا الغالية «الجزيرة».
يقول فرج: لقد مات الليلة زميل عزيز لنا.. هل تعلم مَن؟ فرددت: لا، فقال: إنه شهاب إبراهيم علي محمد زميلنا في قسم مراقبة الجودة ..! عندها تذكّرت الحوار التالي:
«- أين أنت يا شهاب؟
- لقد أصبت في ركبتي..
- سلامات.. لقد افتقدتك اليوم؛ فسألت صاحبك أحمد حسن؛ فأخبرني بذلك، وها أنا أتصل بك لأطمئن، ولأعرف تفاصيل ما حدث.
- بينما أنا عائد من الدوام أمس سقطت أرضاً، دون أن أدري كيف سقطت؛ فأصبت في ركبتي، وذهبت إلى المستشفى؛ فقرّروا وضع جبيرة عليها حتى تتعافى.. وكلها أيام قليلة وأعود إليكم.. شكراً لك صديقي العزيز؛ لاهتمامك واتصالك.. وقريباً نلتقي..».
هذا آخر عهدي بزميلي الأثير «شهاب» الذي لطالما «تناوشنا» معاً على سبيل «الدعابة» التي عوَّدنا عليها «شهاب» طوال سنوات عمله في «الجزيرة»؛ فهو ينشر البهجة بين الجميع بتعليقاته العابرة خفيفة الظل، وها هو أثناء ذهابنا للصلاة، وعقب عودتنا منها، يمازح هذا، ويطمئن على ذاك، ويصلح بين هذين، ويحادث هؤلاء، وكل ذلك في جو من الود والمحبة اللذين يكنهما الجميع لذلك القلب النقي.. لم نسمع «شهاب» يوماً يشكو من أمر ما، ولم نره يغتاب شخصاً، ولم يجرح أحداً في يوم من الأيام.. لقد جعل من نفسه روضة تنشر شذاها في قلوب كل المحيطين به؛ برحابة صدره، ودماثة خلقه، وتفانيه في عمله.. لقد كان نموذجاً يندر وجوده في هذا الزمان..
إنها ليلة حزينة بكت فيها «الجزيرة» رحيل زميلنا الغالي «شهاب»، وكانت لغتنا الوحيدة فيها الدموع والغصص الحرَّى التي ملأت أعيننا وحلوقنا وأنفسنا.. إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا «شهاب» لمحزونون.
لقد كان الرحيل سريعاً ومفاجئاً، وكأن «شهاب» أراد - كما هي عادته - ألا «يزعج» مَن حوله، سواء في حياته أو مماته؛ فبعد أن أزال «الجبيرة»، وإثر مغادرته المستشفى في طريقه إلى البيت، سقط نتيجة جلطة لم تمهله دقائق فارق بعدها الحياة، تاركاً زوجته وأهله وأقاربه وأصدقاءه وزملاءه يتجرّعون آلام الفراق التي لم تخلُ من الذهول، واستحضار كل منا ذكرياته مع «الشهاب» الذي أضاء قلوب كل مَن عرفه بكل المعاني النبيلة والصور الجميلة التي لن تفارقنا مهما امتدت بنا الأيام والليالي؛ فلقد وقَّع «شهاب» في دفاتر قلوبنا «حضوره»، ولكنه نسي أن يسجّل «الانصراف».
خالد عبدالعال
khdabu@yahoo.com