زارني طالب دراسات عليا في الفقه يبحث في رسالته مسائل تتعلق بالصيرفة الإسلامية التي يعمل فيها ويسترزق منها المال والمجد والنفوذ. فقال لي : اكتب يا بن سالم أو لا تكتب، فما تقوله وتكتبه في مسألة عدم ربوية الفلوس المعاصرة لا يدركه ولا يفهمه إلا ندرة قليلة من أهل العلم. فكل البحوث والرسائل والكتب والقرارات الفقهية التي تكلمت في هذه المسألة إما فلسفية لا وزن لها، وإما فرد وبسط ونسخ ولصق وإعادة وتدوير لرسالة الورق النقدي.
قد كثر الخلط والتناقض في هذه المسألة قديما وحديثا، ولكنني سأختصر هنا أقوال العلماء الشرعيين (لا العقلانيين) جميعهم في أربعة أصول تعتبر قاعدة يسهل الرجوع إليها لمن أراد أن يبحث في المسألة، ويستطيع كذلك أن يرجع إليها تناقضات واختلافات العلماء قديما:
فمنهم من قال الوزن. ومنهم من قال بغلبة الثمنية على عين الذهب والفضة، فلا يقاس عليهما شيء. ومنهم من قال بغلبة الثمنية على صفة الثمنية الغالبة، فلا يقاس عليها إلا ما له قيمة في ذاته عندما يُتخذ وسيلة للتبادل. ومنهم من قال بإطلاق الثمنية. والثلاثة الأولى لا تنطبق على الفلوس المعاصرة، فتبقى علة إطلاق الثمنية والتي يرميها معظم العلماء الآن في النزاع دون تفريق بينها وبين غلبة الثمنية بنوعيها. ومنهم من قد يرميها وهو يقصد إطلاق الثمنية دون إدراك بأن لازم هذا القول اليوم هو إخراج الذهب والفضة من السلع الربوية. وقد يجادلونك خطأ وضعفا في المنطق بأن الذهب والفضة أثمان خلقة أو أن النص قد ورد فيهما ولا يدرون أنهم بذلك يتخلون عن القول بإطلاق الثمنية ويعودون إلى علة غلبة الثمنية بنوعيها دون أن يدركوا ذلك.
لذا، فإن كل من أجرى الربا في الفلوس القديمة يُخرج رأيه في علة الربا في النقدين على إطلاق الثمنية بغض النظر عن مذهبه الفقهي، وهذا يشرح كثيراً من خلط الفقهاء واستصعابهم لهذه المسألة.
والقول بإطلاق الثمنية كان معقولا منذ عهد الرسول إلى زمن فتوى هيئة كبار العلماء 1393هـ. فلم يكن واقعا ولا متخيلا آنذاك أن يُهجر الدينار والدرهم (الذهب والفضة) فلا يصبحان وسيلتي تبادل على الإطلاق مما يستلزم من اعتماد هذه العلة عدم جريان الربا في الذهب والفضة عند حدوث ذلك.
فعلة تحريم الخمر مطلق الإسكار فإن لم يعد مسكراً لم يعد حراما، وكل ما أصبح مسكرا -وإن لم يكن خمرا كالبيرة- أصبح حراما بإطلاق علة الإسكار وهذا مفهوم إطلاق العلة.
وقد ناقشت كثيرا من طلبة العلم الأفاضل والمتخصصين فلم يجد أحدٌ منهم جوابا، كما سألت أربعة من كبار علمائنا وأجلهم، وهم علماء ربانيون حقا؛ فهم لا يجدون حرجا أن يقولوا لا نعرف. لذا فمنهم من قال قد نسيت، ومنهم من قال لا أعرف إلا قرار هيئة كبار العلماء، ومنهم من تراجع وطلب أن يراجع المسألة ومنهم من نخاني نخوة وناشدني الله والرحم أن لا أتكلم فيها، وعندما سألته: لماذا؟ أوليست دين الله؟ لم يجب، إلا أنه لا يستطيع تصور المسألة ولا يعرف لماذا!
إن مما سُكِت عنه أن البحث قد حُرم في هذه المسألة بسبب ضعف حجة القول شرعيا مما جعل هذا الباب من الفقه مهجورا فلم يعد هناك من يدرك مسائله، وأستدل على ذلك مثلا بأبواب الفقه المتعلقة بالرق والرقيق؛ فلو جمعت علماء الأمة وسألتهم في بعض مسائل الرق لوجدتهم لا يدركونها، ليس جهلا ولكن بسبب أن الرق قد انتهى، ومسائله قد هجرت فتوقف البحث فيها. والفلوس المعاصرة ليست كأبواب الرق فهي موضوع قديم تجدد حديثا وهو العنصر الأساسي والأهم في الاقتصاد الإسلامي وقد أُجري الربا فيها احتياطا، وقد تغير الزمان والأحوال واختلفت المعطيات والحيثيات. وهذا الاحتياط قد منع الزكاة في أموال المسلمين من غير الفلوس كالأراضي والسندات وأرهقت الأمة وأصبح الإسلام دين الحيل الصورية بفضل ما يسمى «بالصيرفة الإسلامية».