الرياض- خاص بـ «الجزيرة»
هل بتنا في هذه السنوات المتتالية نعيش في عصر المتاجرة بالدين، وهل وصل الأمر بالبعض إلى تسييس الدين والتلاعب به في المجال العام السياسي لمصالح سياسية، واجتماعية حتى لو أدى ذلك إلى تهديد وحدة الأمة، ومكانة الدولة وهيبتها ومعها أجهزتها على اختلافها، بما يدفع إلى تكريس انقسامات رأسية طائفية ودينية واجتماعية بغيضة مثل ما هو مشاهد في عديد من الدول، وربما تشهده دول أخرى مستقبلاً.. وهل الخطاب الديني السائد حالياً انعكاس لما تعيشه الأمة من حالة التشرذم والتفكك والانقسام.. تساؤلات كثيرة تطرح عند النظر إلى حال الأمة الإسلامية المعاصر.. وفي مقدمتها ما الأسباب التي أدت إلى أزمة الفكر الإسلامي السائد؟
مهاترات سياسية
يؤكد بداية د. عبدالرحمن الزنيدي أستاذ الثقافة الإسلامية بكلية الشريعة بالرياض أن هناك أزمة يعيشها تيار ذوي التوجه الإسلامي ولهذه الأزمة أسباب عديدة لعل من أظهرها: نقص التأهيل في العلم والخبرة في مجال البناء الحضاري الذي دخلت فئات منهم مجاله مشاركين من لهم خبرات ودراية معرفية أعمق منهم، والضغط المكثف من قبل أعداء الإسلام ضد الإسلام وضد المسلمين دون وجود منافذ سوية لمواجهة هذا الضغط بما يجعلهم على الأقل - معذورين أمام الأمة، كما أن الإشكالية التي ورط فيها المنتسبون للتيار الإسلامي - من جماعات العنف والإرهاب - هذا التيار برمته فأصبح مدانا ابتداء من عديد من الأطراف الإعلامية والسياسية والثقافية في كل مساعيه، وكذلك سرعة التحولات التي تجري في هذه الآونة من الزمن والتي تجعل من الصعب ملاحقتها من قبل فئة اعتادت فيما سبق الحراك البطيء، إضافة ما تعيشه الأمة الإسلامية والعربية من تشرذم وتردٍ أما سعي القوى الكبرى المتخوفة من انبعاث الأمة إلى توكيد هيمنتها على الأمة الإسلامية عبر القوة.
ويشير د. الزنيدي أن « المتاجرة بالدين» «تسييس الدين» «التلاعب بالدين» جمل مثيرة وخطيرة من المجازفة الرمي بها هكذا.. نعم قد يُقذف بها - في مهاترات سياسية - شخص أو تيار للتنفير منه وتشويهه، لكن في الدائرة الفكرية فإن المفكر يعالج الحالات الواقعية مقوما لها وفق حكم الشريعة والمصلحة الوطنية دون تورط في أمور تحتاج إلى اطلاع على النوايا، وفك بين الدين والسياسة. ولهذا أتعاطى مع فحوى السؤال الذي ينطق بالانزعاج من «البعض» الذي يقارف أشياء فكرية أو مواقف، أو تطرفات تكون لها نتائج عكسية على مصالح الإسلام والأمة والوطن.
وهذا ال»بعض» موجود بلاريب، منطلق فئة منه فساد ولائه الوطني وانحرافه عن الدين الذين يمثل قوام المجتمع، ومنطلق فئة أخرى فساد في التفكير وحمق في التقدير وانسياق مع العواطف المشتعلة بعماها، وعدمها الفكري، وقد يقع بعض هؤلاء صيداً سهلاً لأعداء الوطن من حيث لايشعرون فيعملون في خدمة أعداء وطنهم وأمتهم ودينهم وهم يتصورون أنهم يحسنون صنعا في خدمة دينهم ووطنهم، مثل هذه الصور لا أمان لها لا في انبعاثاتها غير المتوقعة من أي مكان ولا في مآلات أفكارها ومواقفها ما يقضي بضرورة الاهتمام بها والتعاطي الإيجابي معها، وأهم شيء هو المجال الفكري بالحوار، وبكشف فساد مسيرتها سواء في مرحلتها الفكرية أو المواقف أو التنفيذ، وينبغي أن يعيش المجتمع كله هذا الكشف والحوار ليكون صيانة له من إغراء هذا الفكر له، وأهم عوامل النجاح في ذلك هو أن يكون المتصدي لهذا الشأن مؤهلاً فكرياً وشرعياً وموثوقاً به اجتماعياً حتى لا تكون النتائج عكس ما يراد منها.
تأجيج النعرات
أما د. محمد بن عبد الله الخضيري الأستاذ بجامعة القصيم فيقول: الاختلاف والتفرق في الدين سمة ثابتة وصفة راسخة في طوائف المشركين من أهل الكتاب ومن غيرهم الذين أمرنا بمخالفتهم ومجانبة هديهم وطريقتهم وفي التنزيل الحكيم: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}، وفيه أيضاً: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}. {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}، ومن هنا ندرك أن التفرق والانقسام ليس سببه مجرد الجهل والافتقار إلى المعرفة بقدر ماهو شعور بطغيان زائد يغذيه أهواء ومقاصد وذلك يكون من فساد العلم مع وجوده أو من فساد الإرادة تارة ففساده من جهة العلم أن يعتقد أن ما يسلكه ويحامي دونه مشروع ومحبوب لله وليس كذلك أو يعتقد أنه يقربه إلى الله وإن لم يكن مشروعا فيظن أنه يتقرب إلى الله بهذا العمل وإن لم يعلم أنه مشروع وأما فساده من جهة القصد فإنه لا يقصد به وجه الله والدار الآخرة بل يقصد به الدنيا والخلق والمناصب أو مصالح قومية أو طائفية بحتة. ويبرز سبب آخر لا تخطئه العين ألا وهو غياب الدور الإعلامي المؤثر للمؤسسات الإعلامية في الدول الاسلامية فالرسالة الإعلامية في عامة الوسائل بكل أسف لم تؤد واجبها في تربية الفرد ومخاطبة عقله من جهة ووجدانه من جهة أخرى في ضرورة حفظ الدين والأخلاق واحترام ما يعتقده المسلم ويدين به ومن جهة أخرى ضرورة التلاحم والاجتماع الفكري والمنهجي لأمة ودولة دينها واحد وربها واحد ونبيها واحد ولا نبالغ إن قلنا إن التأثير عكسي تماما حيث عامة البرامج الإعلامية والفضائية منها بالذات تضخ مواداً تكرس البعد عن التربية الإيمانية المتوازنة وتنشر مايؤجج الغرائز الجنسية والغرائز العنصرية عبر مسلسلات شهوانية وأخرى تمجيدية تؤسس لفكر التناحر وإثارة النعرات.
ولانغفل أيضا افتقار المشهد الثقافي والسياسي لبرامج فكرية أصيلة تدعو إلى فقه الاختلاف مثلما تؤسس لبرامج الائتلاف وتخاطب الجيل الصاعد وتمده بمكونات معرفية ودورات تأهيلية تجعله قادرا على التفكير الاستقلالي وحسن الفرز لما يتلقاه مباشرة أو إيحاء لأننا نعيش الآن تصديرا ونشرا لفكر طائفي مقيت يتلقى منه الأتباع من الأغرار كل تنكر بل وكل سب لسادات الأمة وأفضل جيل عرفه التاريخ ويتربى في أجواء تغرس فيه التقديس والولاء لقيادات وحكومات خارجية بحيث يكون جنديا رهن الإشارة وطوع الأوامر...
وكل انقسام أو محاولة لاستنباته يقف خلفه فكر داعم مكون من عقائد دينية ومصالح وأطماع سياسية والتاريخ البعيد والقريب يؤكد أن أي تهاون أو غض للطرف عن تلك المحاولات وبالذات إذا تزامن معه الاستقواء بولاءات خارجية فإنه سيكتسح وبكل قوة جميع ما أمامه وإذا كان الحضور السياسي الواعي والحضور الأمني المؤثر هما ركيزة أمان الدول والمجتمعات فإن المعالجات الفكرية ونشر المناهج العلمية الأصيلة والمتوازنة عبر كافة المنابر والمنافذ المعرفية والثقافية هو أساس الحصانة والوقاية وذلك واجب إسلامي قبل أن يكون فريضة المرحلة الوطنية والاجتماعية والإعلام في هذه المرحلة رائد والرائد لا يكذب أهله فيجب أن يكون ناقلا وناطقا أمينا لهذا المنتج المتميز... والإعلام بطبيعته لا يقف مترنحا ولا صامتا ولا محايدا فإن لم يكن مؤثرا بانيا فهو حتما سالب هادم... فهل سيكون ربان الإعلام ورجالاته على مستوى التحدي والتغيير الإيجابي للتي هي أحسن بالتي هي أقوم.
المهمة العظيمة
ويقول د. العباس بن حسين الحازمي - عضو هيئة التدريس بكلية أصول الدين بالرياض: لقد بيّن الله - عز وجل - الواجب الحقيقي، والمهمة العظيمة الملقاة على عاتق الذين امتنّ عليهم فحمّلهم العلم بكتابه، فقال: {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}.
وفي هذه الآية يخبر الله أنه أخذ الميثاق على كل من أعطاه الكتاب، وعلمه العلم، أن يبين للناس ما يحتاجون إليه مما علمهم الله، ولا يكتمون شيئاً من ذلك، ويبخلوا به خصوصاً إذا سئلوا، أو وقع على الناس ما يوجب سؤالهم؛ فإن كل من عنده يجب عليه في تلك الحال أن يبينه ويوضحه.
وبيّن أهل التفسير أن الذين خالفوا أمر الله ذلك، واشتروا بذلك الكتمان أو البيان في غير محله ومكانه ثمناً قليلاً، وهو ما يحصل لهم من بعض الرياسات والأموال الحقيرة، وسمى الله ذلك العوض ووصفه بقوله: {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ}، لأنه أخس العوض، والذي رغبوا عنه- وهو بيان الحق الذي فيه السعادة الأبدية والمصالح الدينية والدنيوية- أعظم المطالب وأجلها، فلم يختاروا الدنيء الخسيس ويتركوا الغالي النفيس؟!!
ولابد من الإشارة في هذا الموقف إلى أنه لابد من دراسة واعية متأنية للظروف والمتغيرات التي طرأت على الأمة منذ القرن الأول إلى اليوم، وكيف تعامل علماء كل فترة وحقبة مع تلك الظروف والمتغيرات بسائر أنواعها، وتأثير ذلك في خطابهم الديني - كما يسمى اليوم-، وقيامهم بواجبه الشرعي.