|
د. حسن أمين الشقطي
بإعلان الأرقام الختامية للميزانية الفعلية لعام 2010م، تنهي المملكة عامها المنصرم بإنفاق إجمالي وصل إلى 626.5 مليار ريال، وهي القيمة الأعلى في تاريخ الميزانية السعودية، وتقترب من قيمة ما أنفقته الحكومة السعودية خلال فترة حقبة السبعينيات تقريباً.. والقيمة المرتفعة للإنفاق الحكومي ليست وليدة هذا العام فقط، ولكنها أصبحت السمة الأساسية للميزانيات الحكومية على مدى الثلاث سنوات المنتهية، والتي بدأت الميزانية تأخذ فيها منحنى مختلفا عن سابق عهدها (كما يتضح من الشكل (2)).
خلال خمس سنوات.. الحكومة تنفق 2.5 تريليون ريال
بإعلان ميزانية 2010 تنهي المملكة خمسة أعوام من تاريخها الحديث بإنفاق حكومي وصل في الإجمالي إلى 2.55 تريليون ريال، وهي قيمة عالية لم تكن متوقعة للاقتصاد السعودي في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، حيث إن حجم الإنفاق الفعلي خلال كامل الفترة (81-1990) لم يتجاوز نحو 2.0 تريليون ريال، رغم أن هذه الفترة لا يزال راسخاً في الأذهان بأنها الأعلى نمواً للاقتصاد الوطني حتى الآن.. ونحن لا نرغب في هذا السياق في الحديث عن الفروقات الكبيرة التي طرأت على الإيرادات الإجمالية فيما بين فترة الثمانينيات وبين العقد المنتهي في 2010، حيث إنها ارتفعت من إجمالي 1.6 تريليون ريال خلال الفترة (81-1990) إلى إجمالي 4.6 تريليون ريال خلال الفترة (2001-2010)، ورغم أنها قفزة غير عادية في إيرادات الاقتصاد السعودي، إلا أننا لا نرغب في التعليق عليها كثيراً لأنها لا تعبر عن الإنجازات الحقيقية المرتبطة بالاقتصاد المحلي فقط، ولكنها تمتزج بعوامل ومؤثرات التغير في أسعار النفط.. إلا أن المعبر الحقيقي عن حجم التوسع في حجم ونطاق ونوعية الاقتصاد السعودي وتصنيفه يرتبط في الحقيقة بعنصر الإنفاق الحكومي وحجم ونوع تطوره خلال الآونة الأخيرة.
مرحلة النمو الجديدة للاقتصاد من (2006-2010)
في اعتقادي أن الاقتصاد السعودي انتقل إلى مرحلة نمو جديدة لم يتم تصنيفها حتى الآن كما يجب.. فآخر مرحلة نمو موصفة جيداً كانت حتى عام 2005م، وهي المرحلة التي كانت فيها حدود النفقات الحكومية تقف عند 285 مليار ريال.. وهي مرحلة قيل حينها إن الاقتصاد الوطني على وشك الدخول في مرحلة نمو جديدة، فالمرحلة التي نتحدث عنها هي مرحلة الفترة (2006-2010)، وهي في اعتقادي يسهل توصيف حجم التوسعات فيها، ولكن قياس النمو بالمعايير الحقيقية قد يتطلب بعض الوقت، فحجم التوسع في النفقات الحكومية يمثل طفرة تفوق كثيراً طفرة الثمانينيات التي يحلو للكثيرين التحدث عنها بأنها فترة الانتعاش الاقتصادي الحقيقي بالمملكة.. ولكن التوسع في فترة (2006-2010) لا يوجد مثيل له في الاقتصاد الوطني أو حتى باقتصاديات الدول الإقليمية المجاورة.. فحجم متوسط النفقات الحكومية السنوية وصل إلى 509.2 مليار ريال، وهي قيمة عالية وتزيد عن متوسط الإنفاق في كثير من دول العالم، وبخاصة إذا ما قورن هذا الإنفاق بعدد السكان.. وقد ارتفع متوسط نصيب الفرد السنوي من الإنفاق الحكومي بالمملكة من مستوى 11.5 ألف ريال في عام 2000 إلى حوالي 11.8 ألف ريال في عام 2010م.
معدلات نمو الناتج بالمملكة خلال (2005-2009) تفوق مثيلاتها بالدول المتقدمة
يوضح الجدول (4) تقديرات البنك الدولي لمعدل النمو السنوي لإجمالي الناتج المحلي بأسعار السوق على أساس سعر ثابت للعملة المحلية. وتستند تلك الإجماليات إلى السعر الثابت للدولار الأمريكي في عام 2000. وإجمالي الناتج المحلي هو عبارة عن مجموع إجمالي القيمة المضافة من جانب جميع المنتجين المقيمين في الاقتصاد زائد أية ضرائب على المنتجات وناقص أية إعانات غير مشمولة في قيمة المنتجات. ويتم حسابه دون اقتطاع قيمة إهلاك الأصول المصنعة أو إجراء أية خصوم بسبب نضوب وتدهور الموارد الطبيعية.. وتوضح هذه المعدلات أن إجمالي القيمة المضافة بالاقتصاد السعودي قد تنامت بمعدلات جيدة خلال الفترة (2005-2008) تفوق مثيلاتها في الدول الصناعية الخمس كما هو واضح بالجدول (4).. ولكن الجدول نفسه يوضح أن الأزمة المالية العالمية قد أثرت من خلال الركود القاسي الذي ضربت به الاقتصاد العالمي في تراجع معدلات نمو الناتج في عام 2009م على مستوى كافة الاقتصاديات بنسب مختلفة، ويعتبر الاقتصاد السعودي من تلك الاقتصاديات القليلة التي خرجت بمعدل نمو موجب وليس سلبي، حتى ولو بنسبة ضئيلة تعادل (0.1%)، مقارنة بتلك المعدلات السلبية التي أحرزتها الدول الصناعية الكبرى.. وللتنويه فإن المصادر الرسمية المحلية تقدر معدل نمو الناتج في عام 2009 بنسبة 0.6%، ولكننا آثرنا أن نعتمد على المصدر الدولي لإجراء مقارنة من مصدر واحد.
نمو متسع بالناتج المحلي بسبب سياسة الضخ العريض للنفقات الحكومية
البعض يضع علامات تعجب كثيرة أمام معدل النمو الموجب للناتج المحلي الإجمالي السعودي في عام 2009م رغم أن الأزمة العالمية تركت آثاراً عريضة على سوق النفط، والذي يعد عاملاً رئيساً في التأثير على الاقتصاد السعودي، ولكن يعود الفضل في حفاظ الاقتصاد السعودي على توازنه في عامي الأزمة المالية (2008-2009) إلى السياسة المتزنة للإنفاق الحكومي التي تمكنت من الحفاظ على الاستقرار الداخلي حتى رغم الانخفاض النسبي للإيرادات الحكومية في عام 2009م.
الإنفاق الحكومي بالمملكة يعادل 46% من إجمالي الإنفاق الحكومي بدول المجلس
أما المؤشر الثاني الذي يدلل على مدى التوسع في الاقتصاد الوطني، فهو أن حجم الإنفاق العام بالمملكة الآن أصبح يعادل نسبة 46% من إجمالي الإنفاق العام بكافة دول مجلس التعاون الخليجي، فحجم الإنفاق الإجمالي بدول المجلس بلغ حوالي 301.8 مليار دولار في عام 2008م، في حين أنه وصل في المملكة إلى حوالي 138.7 مليار دولار، وذلك حسب آخر إحصاءات متاحة عن دول مجلس التعاون.
ارتفاع نصيب الإنفاق الرأسمالي بالمملكة
من نواحي التميز الجديدة التي ترسخت خلال الفترة (2000-2009) ارتفاع نصيب الإنفاق الرأسمالي من إجمالي الإنفاق العام بالمملكة، فبعد أن كان معظم الإنفاق العام يتجه إلى المصروفات الجارية، أصبحت المصروفات الرأسمالية تمثل نسبة مهمة مؤخراً.. فالمصروفات الجارية الفعلية وصلت في 2000م إلى حوالي 217 مليار ريال، مقابل كمية ضئيلة من المصروفات الرأسمالية لم تزد عن 18 مليار ريال في نفس العام.. أما في عام 2009م (آخر إحصائية متاحة لتفصيل المصروفات العامة)، فقد وصل حجم المصروفات الجارية إلى حوالي 417 مليار ريال، ووصل حجم المصروفات الرأسمالية إلى حوالي 180 مليار ريال.. أي أن مساهمة المصروفات الرأسمالية في إجمالي الإنفاق العام ارتفع من نسبة 7.8% في عام 2000م إلى حوالي 30.2% في عام 2009م، وهو ما يدلل على أن التوجهات أصبحت ليس إنفاقاً جارياً فقط، ولكن أصبح التركيز على المجالات الرأسمالية ذات العائد والقيمة المضافة يتزايد.
التسويق لإنجازات الاقتصاد الوطني لا يزال محدوداً
خلال الآونة الأخيرة تزايدت قيمة تدفقات الاستثمار الأجنبي إلى داخل الاقتصاد الوطني بشكل ملموس، وازداد الإقبال على السوق المحلي، إلا أن هذه الزيادة وهذا الإقبال لا يزالان أقل من مستوى الإنجازات التي أحرزها الاقتصاد الوطني، بل إن حجم التوسع بالمعايير الحقيقية وتميز الاقتصاد الوطني لا يزال مخفياً داخل الأوراق والتقارير التي لم تعطه حقه في الظهور بالمحافل الدولية ليكون أحد الرواد الذين يشار إليهم بالبنان.. وفي اعتقادي أن إنجازات الفترة (2006-2010) تحديداً تتطلب إفراداً خاصاً ومتخصصاً، بل إن هناك حاجة لتوصيف تشخيصي لمرحلة النمو الجديدة وتحديد ملامحها بوضوح، وبخاصة في ضوء الطفرة التي ستحرزها الإنشاءات والكيانات العمرانية العملاقة التي تبنى حالياً.. إن إنجاز ستة آلاف كيلو متر من الطرق الجديدة، ونحو سبعة آلاف كيلو متر طولي لمشاريع المياه والصرف الصحي، وغيرها خلال عام واحد يعتبر إنجازاً في البنية التحتية يتطلب الترويج لمن يتطلعون إلى الاستفادة من الفرص الاستثمارية في الاقتصاديات الخارجية.. فما بالنا بإنفاق حكومي وصل إلى 2.5 تريليون ريال خلال فترة خمس سنوات، كيف حدث وماذا قدم وما هي قدر التوسعات بمعايير النمو الحقيقي التي أحرزها.. إنها تساؤلات تتطلب تشخيصاً من الجهات المسؤولة عن الترويج للاقتصاد الوطني، وعلى رأسها إعادة توصيف مراحل النمو للاقتصادي كمراحل طفرة جديدة وليس فقط معدلات نمو سنوية.. لأن تركيب هذه المراحل يعطي صورة أكثر وضوحاً للاقتصاد الوطني ويحدد الدورات الجديدة المرتقبة له.
(*) المصدر: إحصاءات الأمانة العامة لدول مجلس التعاون الخليجي(*) محلل اقتصادي
dr.hasanamin@yahoo.com