كم من الأرقام السرية أحمل في جعبتي؟ هل راودك السؤال مثلي يوماً؟ وكم من اليوميات نتعامل معها بموجب رقم سري يخصنا وحدنا؟ إنه نمط حياتي جديد، فرضته تعقيدات تقنية قوامها الأرقام وأبعادها الحروف المبعثرة، في خضم هلع من هاجس الاختراق، دافعنا نحو ذلك توجس من التجسّس والتلصّص والتطفّل على خصوصياتنا،
تلك التقنية رغم ما تقدّمه لنا من تسهيلات جليلة وخدمات وفيرة فإنها بشكل أو بآخر تدفعنا للتمترس خلف جدران من الأسرار، والتموضع في قلاع من التشفير، إنها الهالة الأمنية التي يمنحنا إياها كل رقم سري نختاره لنستخدمه ونتحاشى الإفصاح عنه أو حتى التلميح إليه، فذاك رقم سري لشريحة الجوال، ومفتاح قفل للجهاز نفسه، ولكي أتأكد من رصيدي البنكي فإن ذاكرتي تختزن حزمة أرقام سرية، أحدها لبطاقة الصراف، وآخر للهاتف المصرفي، وثالث للإنترنت المصرفي، في مقر عملي يواجهني رقم سري للدخول إلى نظام التشغيل ومثله لدخول الشبكة، وآخر للبريد الإلكتروني، هل أحصيت أرقامك السرية يوماً؟ ليس سوى تلك الأرقام يصيبني بالصداع، تشوّش العقل وتحتل مساحات من الدماغ، ولا نفتأ نعيد ترتيبها ونغيّر من تراكيبها دورياً كما ينصح خبراء أمن المعلوماتية، أقرب المقرّبين منك ليس له معرفة أرقامك السرية والاطلاع عليها، بمن فيهم شريكة حياتك وأبناؤك؟ من ذا يطلع زوجته اليوم على تفاصيل حسابه البنكي إلا زوج يقطر وفاءً وينضح شفافية؟
ماذا لو استيقظت غداً صباحاً لتجد كل تلك الأرقام قد محيت من ذاكرتك؟ وكأني أحس بشعور العزلة الذي سيعتريك ساعتئذٍ، حتى لو كانت عزلة مؤقتة سرعان ما ستتحرك بجنون كي تستعيد توازنك بإعادة تشكيل وبناء متاريسك السرية من جديد. ولى زمن «التجوري» و»صندوق السيسم» إلى غير رجعة فيما يبدو، وأقبل زمن الأرقام السرية بكل ما يكتنفه من غموض ويحيط به من كتمان، نحن نلتقي مع بعضنا ونفترق بوضوح معلن، ونغيب وكل منا بئر عميق من الأسرار!
محاضر بجامعة جازان -