يكثر في أيامنا الحديث عن هزيمة أمريكية محتملة في أفغانستان.. وتشير تطورات وتصريحات متنوعة إلى أن حركة طالبان تمر في طور صعود حقيقي، بينما تفقد جيوش الأطلسي عامة وأمريكا خاصة سيطرتها على مناطق متزايدة الاتساع من البلاد، وتتراجع إلى تخوم بعض المدن الرئيسة، مبددة ما تبذله من جهد ميداني ...
لاستعادة المبادرة أو تحقيق نوع من التوازن، يفرض حالاً من الثبات العسكري يكبح طالبان ويجبرها على البحث عن حلول وسط سياسية، تخرج أمريكا من أفغانستان دون أن تعرضها لهزيمة كالتي سبق لها أن عرفتها خلال حرب فيتنام.
ومع أنني لا أظن أن هذه الصورة حول أوضاع أفغانستان مطابقة للوضع هناك، فإنني سأفترض أنها صحيحة، وسأناقش مسألة على قدر كبير من الأهمية هي: هل هناك دول لها مصلحة في هزيمة أمريكا وحلف الأطلسي على يد طالبان؟.. وهل لإيران تحديداً مصلحة في وصول طالبان إلى السلطة من جديد؟.. وهل تلتقي مصالح روسيا والصين على ضرورة إلحاق هزيمة عسكرية بأمريكا، تعيد طالبان إلى الحكم في كابول؟.
هذه الأسئلة تطرح نفسها في ضوء ما يقال عن دور إيراني يقوض الجهود الأمريكية، العسكرية والسياسية، في أفغانستان أو يربكها، ودور روسي وصيني يعمل على إخراج واشنطن من هناك، وذيلها بين ساقيها، كما يقال.
قبل الإجابة على هذه الأسئلة، أذكّر بحقائق لا سبيل إلى إنكارها، هي أن إيران ترى علاقاتها مع طالبان باعتبارها جزءاً من صورة أكبر يعينها التجاذب الدائر مع واشنطن، وسعيها لجمع أكبر عدد من أوراق الضغط على أمريكا في يدها. تستخدم إيران ورقة طالبان من أجل تسوية خلافاتها مع واشنطن لصالحها، في مجال جغرافي/ سياسي أكبر بكثير من المجال الأفغاني، وليس لأنها تريد عودة طالبان إلى السلطة في كابول، خاصة وأن هذه العودة ستثير مصاعب كثيرة في وجهها، بسبب ما يعرف عن طالبان من تشدد مذهبي، وتمثله من خطورة على طهران ودورها: في الصراع الدائر اليوم على قيادة العالم الإسلامي، ويكاد يكون محوره إيران ومكانتها منه هذه القيادة، كما في سعي أطراف دولية مختلفة، على رأسها أمريكا، لشق هذا العالم مذهبياً وإيقاع فتنة واسعة بين طرفيه: السني والشيعي، تمنح واشنطن قدرة هائلة على التدخل في صراعاته، دون أن تكون طرفاً مباشراً فيها، مثلما هو حالها اليوم. في الحالة الأولى، ستكون طالبان رأس خنجر مغروس في ظهر طهران، ومصدر خطر محقق عليها، وطرفاً مباشراً في أي عمل ضدها، وفي لحالة الثانية جزءاً فاعلاً جداً من الطوق المضروب حولها. بما أن إيران تعي هذا وتخشاه، فإنها تضغط على أمريكا بورقة طالبان، دون أن يصل تأييدها لحركتها درجة الموافقة على انتصارها على أمريكا وعودتها إلى السلطة في بلادها، لأن ذلك سيمنحها ثقة خطيرة بنفسها وبإمكاناتها ضد أي كان، وسيشجعها من جديد على التحرش بطهران، كما سبق لها أن فعلت عام 1995، عندما كادت أن تجرها إلى حرب، بعد أن تبادلت معها التهديدات والحشود العسكرية، وأدانت بلغة استفزازية الإسلام الإيراني واعتبرته خروجاً على الدين من الكفر السكوت عليه أو التعايش معه.
بدورهما، تخاف روسيا والصين انتصار طالبان على أمريكا، لأن انتصارها يضعهما أمام قوة سيصعب عليهما قهرها، هزمت أعظم قوى العالم سلاحاً وتقنية، وأكثرها عدوانية ونزوعاً إلى الحرب، لن تتهاون في تفجيرهما من الداخل، عبر إثارة مسلميهما ضد حكومتيهما غير الشرعيتين. بما أن جنوب روسيا يشبه برميل بارود قابل للاشتعال إسلامياً، والصين متورطة في صراع خطير الأبعاد مع مواطنيها الأنجور، بدأ مؤخراً يأخذ طابعاً مسلحاً، فإن قيادات البلدين، التي تخشى هزيمة أمريكا في أفغانستان، صرحت أكثر من مرة أنها لن تسمح بانتصار طالبان، بل إن رئيس روسيا وافق قبل أيام على مساعدة حكومة كابول الأمريكية ضد التمرد، بينما امتنعت الصين عن تقديم دعم واسع لأعداء أمريكا المقاتلين، ورأت، شأنها في ذلك شأن روسيا، في حرب أمريكا هناك ضربٌ من الدفاع عن أمنها الداخلي، يجعل من مصلحتها إما هزيمة طالبان أو وهذا أفضل، استمرار الحرب لمدى طويل تستنزف خلاله قوى الطرفين المتقاتلين، يستحسن أن ينتهي بانتصار أمريكي يبقي العناصر العلمانية والإسلامية المعتدلة في الحكم، ويخرج أفغانستان من رهانات الأصولية الإسلامية.
هل لأوروبا مصلحة في هزيمة أمريكا، بينما تقاتل قواتها في إطار حلف الأطلسي تحت قيادة عسكرية وسياسية أمريكية؟.. أم هل يريد العرب انتصار طالبان وحليفتها القاعدة، التي تقاتل اليوم في أكثر من موقع عربي، وتمثل تهديداً يمس بأمن وسلامة معظم الدول والنظم العربية؟.
ماذا يعني انتفاء الرغبة للإقليمية والدولية في انتصار طالبان وهزيمة أمريكا ؟. وماذا يمكن أن يترتب على هذا من استنتاجات؟.. سأجيب باختصار شديد: كلما تعاظم خطر انتصار طالبان، سيتناقص دعم إيران خاصة، وروسيا والصين عامة، المقدم لها، إن كان هناك حقاً دعمٌ، كما يزعم الأمريكيون. ثانياً: كلما طال أمد الحرب وتأكدت استحالة انتصار طالبان، ستزداد ميل قيادتها، أو أجزاء منها، إلى التسوية والمصالحة. أخيراً، ليست الحرب الحالية حرب انتصار أو هزيمة، إنها حرب تستهدف تحسين ظروف وأوراق أطرافها، التي يريد كل طرف منها بلوغ تسوية نهائية تخدم مصالحه وتقوض مصالح خصومه، تجعل من أفغانستان ما بعد الحرب بلداً ينفرد هو بالنفوذ الأكبر فيه. أليست هذه هي خطة أوباما، التي يقول هو نفسه إنها لا تستهدف حل المشكلة الأفغانية عسكرياً، وتتركز على استخدام القوة لمنع طالبان من العودة إلى السلطة والانفراد بها، بمنعها من إنهاء الحرب بطريقة تغلب حضورها ونفوذها على حضور ونفوذ بقية الأطراف السياسية والعسكرية المشاركة في الحرب.
من الصعب، في ظل هذه الظروف وهذه الحسابات، أن تهزم أمريكا عسكرياً في أفغانستان. من الصعب كذلك أن تنتصر طالبان عسكرياً أو سياسياً. ويرجح أن يصل القتال بجميع أطرافه إلى طاولة مفاوضات لن تهدد نتائجها إيران وروسيا والصين، أو تضيع جهود الغرب الأمريكي / الأوروبي، أو تستبعد مشاركة طالبان في السلطة، بعد حقبة من تعاون الجميع، في الداخل والخارج، على نزع أظافرها وأنيابها!.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل يخرج الصراع بين أمريكا وإيران عن حساباته ومساراته الراهنة، المضبوطة جيداً إلى حد بعيد، فتدعم طهران انتصاراً عسكرياً تحققه طالبان، يفتح عليها أبواب حرب أمريكية لا تبقي ولا تذر، أم تعمل أمريكا لتسوية مع طالبان تكون إيران هي الخاسر الرئيس فيها، فتمتد الحرب إلى ما لا نهاية في أفغانستان المسكينة؟.