في هذه الأيام، لا يمكنك أن تجد موقع سجدة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, إن لم تبكر قبل موعد الصلاة بساعات, وساعات، أو لعلك تنتظر الصلاة للأخرى إن كنت حريصا على سجدتك في داخله، وإلا فإن الصفوف المتراصة، المتلاحمة، التي لا تكاد تتبين مبتدأها، ومنتهاها، ستجعلك تتفكر كثيرا..,
في قدرة الله التي جمعت كل اللغات في ألسنة كل الألوان، بمختلف الملابس والسمات، والتقاطيع والأصوات, في مكان تتوقع أنه لا يتسع، فإذا بك في ضيافة الرحمن, الذي يهيئ لك مكانا, وموقع سجدة.., وإذا بك تقرأ الإيمان، في لهفة الوجوه، وسواكب العيون، وشهيق الصدور، وتأوهات القلوب، حتى إذا ما تلفَّت يمنة، ويسرة، جاءتك الأسئلة كأنها تقرأ في سماتك أنك ابن المكان، وهل في تلك اللحظة أكثر منك مباهاة، حين تجيب نعم، أنا من هنا..؟
لكن ما الذي ستجيبك به الأصوات، وتمتد إليك به الكفوف..؟ إلا محاولة المسح على كتفيك, أو رأسك، ولسانها يبارك لك, ويغبطك، لكنك في موقفك، ستكون مضطرا لأن تلهج ما استطعت بأي لغة، وإن كانت لغة الإشارة،إلى تطمين قلوبهم بأن الله رب كل من في الأرض، وبأنك واحد لا تختلف عنهم، وما الفروق إلا في ميزان الله تعالى لتقواكم.., وبأن كتفيك، ورأسك لا يمثلان قدسية المكان، ولا خصوصية الإيمان.., فإذا ما استمعت إليهم، جاءك لسان بعضهم يلهج بالشكر, أنه تعالى قد وفقه لبيع بيته، من أجل أداء حجته، وصوت آخر يقارن بينك، وبينهم في قدرتك على الصلاة في المسجدين بمكة والمدينة متى شئت، وأداء العمرة، وقتما رغبت، والحج منك قريبةٌ مشاعره معلومةٌ لك شعائره، أما هم، فإنهم يتكبدون السعي إليهما، قد يكون لمرة واحدة في العمر، وعسى أن يكون مشكورا مقبولا...
والأصدق الذي تخفق له خلجاتك بكل نابضة فيك, هو حين تمر بهم، وقد تجمعوا بعد الصلاة، تنكفئ كل جماعة، على أطباق خفيفة، يقيمون بها أود جوع، عسى أن يقووا بتلك اللقيمات على مواصلة التنقل، وإتمام الشعيرة..
كل الدنيا تلتف من حولك, بكل جنسيات المسلمين فيها، فتقول يارب ما أسعدني أن جلست إليهم، وصليت بجوارهم، ودعوت معهم، وتعرفت على بعضهم، وتناولت معهم شربة زمزم، وصافحت كفوف بعضهم، هذا كان حالي لبعض أيام في مدينة رسول الله جلست إلى عائشة وقيصوم المغربيتين، وحواء وفاطمة السنغاليتن، وباموك وسويم التركيتين، وسولي وسونانا الماليزيتين ونجاح الاسترالية من لبنان أصلا، وبهاء الجزائرية، ونصرة وخديجة المصريتين،...صلينا ما شاءت لنا مواقيت الفروض الخمسة أن تقام بإذن الله فنجتمع فيها، وما قدر لي الله أن أرى الحج خشوعا والصلاة إقبالا، وأشم للمدينة ومكة عبقا في أنوفهن وأنوفهم، ما شعرت ولا للحظة مثل هذا الشعور بين من ينامون ويقومون في كنف هاتين المدينتين المقدستين حيث رزقنا الله تعالى الانتماء لهما, والعيش فيهما أو قربهما...
لله كم هي مفارقة واسعة، وذات دلالات, لا أجمل منها في جانبهم، وما أحوجنا إلى الإحساس بها في جانبنا. ثمة كلمة تقدير لجميع من يقوم بمسؤولية توجيه المصلين من الحجاج، وتوجيههم للصفوف، والإشارة لهم بالصواب من الحركة، أو الواجبات،ومن يقوم على متابعة دؤوبة للنظافة حتى لكأنك لا ترى هذه الحشود الكبيرة، تجتمع في بقعة واحدة..
فتحية لمن يشرف ولمن يعمل ولمن يتطوع من الشباب والشابات الذين كانوا أمامي صورة جميلة رائعة للتكاتف والنشاط..
في مسجد رسول الهدى الذي نهتدي صلى الله عليه وآل بيته وخلفائه وصحابته وسلم.