قديماً، عندما كنا أطفالاً.. كانت «الجدات» عموماً، وليس جدتي وحدها.. يتحدثن عن «بقرة عاشور» أو «عاشورا» بتخفيف الهمزة، التي تأتي محملة بالأطعمة والفواكه والأقمشة والهدايا، لتوزعها على كل البيوت وكل الناس..
..... في ليلة «العاشر» من شهر المحرم من كل عام، الذي كان يحتفل (الكبار) فيه بصيامه نساءً ورجالاً.. هو وسابقه (تاسوعاء).. أما الأطفال والصبية من الجنسين، فقد كانت تُعد لهم ملابس جديدة.. لارتدائها والخروج بها في صباح ذلك اليوم.. الذي كان وكأنه «عيد» ثالث بعد عيدي الفطر والأضحى.. نفرح به وفيه، ولذلك فقد كان يوماً محبوباً هو و»بقرته» الأسطورية.. لم يبق منه غير حلوى «العاشورية» التي ماتزال قلة من البيوت الحجازية، تقوم بإعدادها وتناولها بل وتوزيعها على الأهل والأصدقاء.. في ذات اليوم من كل عام.
وإذا كنا قد علمنا فيما بعد.. بأن لذلك اليوم بعض القدسية.. احتفاءً بذكرى نجاة سيدنا موسى عليه السلام من الغرق هو ومن آمن برسالته من بني إسرائيل، بعد أن فشل «جند فرعون» في الإمساك به وقتله هو ومن معه.. فإن ذلك زاد من محبتنا لذلك اليوم ولتلك «البقرة الأسطورية « الطيبة، أما البقرة الهندية «المقدسة».. فلم نعلم بها إلا بعد أن وعينا وأدركنا ما يدور في العالم من حولنا على اتساعه.. لنتحفظ على توصيفها ب «القداسة» مع إدراكنا لأسبابها وسط الملايين الهندية الفقيرة التي كانت (البقرة) بالنسبة لهم.. هي كل شيء. فهي مصدر الغذاء، وأداة الحرث والتجارة بين جموعهم الحاشدة، والمكتظة «اجتماعياً» بعشرات العادات والتقاليد واللغات.. و»فكرياً» بعشرات الأديان والملل والطوائف، وإلى حد عبادة بعضهم لتلك «البقرة»..!
بين «بقرة عاشورا» الأسطورية الطيبة المحبوبة.. وربما المجهولة عالمياً، والبقرة الهندية «المقدسة».. التي يعرفها العالم كله، اختار زعيم حزب الأمة السوداني المعارض: السيد صادق المهدي.. أن يصف بسخرية من العيار الثقيل «استفتاء» جنوب السودان على الانفصال عن شماله أو استمراره في الوحدة معه - المزمع إجراؤه في التاسع من شهر يناير القادم -، بأنه تحول إلى (بقرة مقدسة!! لا يستطيع أحد أن يمسها في السودان، فلا أحد يستطيع الكلام عن التأجيل إلا الولايات المتحدة التي يعتبرها الجنوبيون بمثابة «ولي الأمر»، وأي جهة أخرى محلية أو عربية أو أجنبية ستكون مبرراتها محل تشكيك من الجنوبيين).. رغم أن دواعي التأجيل - التي أشار إليها وعددها ابن السودان ورئيس وزرائه لمرتين الصادق المهدي - في حديثه الذي أدلى به لعدد كبير من الصحفيين ووكالات الأنباء في القاهرة.. وليس في الخرطوم - كانت أكثر موضوعية وحسماً.. من دواعي الركض نحو إجراء «الاستفتاء» في موعده، الذي تم الاتفاق عليه في مدينة «نيفاشا» الكينية قبل خمس سنوات، وب «رعاية أمريكية - وليست أممية!! -.. جعلت منه «إنجيلاً» لا يمكن تغيير نص من نصوصه!!
ولكن كيف ل «استفتاء» بهذه الأهمية والخطورة أن يتم.. و»مفوضية الاستفتاء» منقسمة على نفسها كما قال، وكيف له أن يتم و»الميزانية» المطلوبة لإجرائه لم تدفع؟ وكيف له أن يتم والإدارات التي ستتولى استقبال أصوات المهاجرين الجنوبيين البالغ عددهم مليوني مهاجر في مهاجرهم بعيداً عن السفارات السودانية بها.. لم تؤسس بعد؟ وكيف لهذا الاستثناء أن يتم والقضايا الخلافية بين «الشمال» و»الجنوب» ماتزال عالقة.. حول «الحدود» و»العملة» والجنسية و»الأصول» والديون وحقول النفط.. لم تحسم؟ كما قال الصادق المهدي..؟
لكن الولايات المتحدة.. تريد إجراء الاستفتاء في موعده المقدس ك «البقرة».. أياً كانت المصاعب، بل وأياً كانت النتائج.. فالولايات المتحدة يهمها ولا تخفي ذلك على أحد أو تتظاهر بغيره، أن يجري الاستفتاء ببساطة «فصلِ» توأمين سياميين.. وأن يتحقق انفصال الجنوب السوداني عن شماله، لسبب واحد.. واضح كالشمس في رابعة النهار، وإن ظنت الولايات المتحدة بأن «الآخرين» لم يدركوه.. هو ضم «منطقة أبيي» الغنية بالنفط إلى دولة الجنوب عندما يجري الاستفتاء الآخر فيها، والمقرر له أن يتم بعد ستة أشهر من الأول.. بين أبناء «منطقة أبيي» ليختاروا إلى أي من الدولتين يريدان الانضمام إليها: دولة الشمال أم دولة الجنوب؟ فهي على ثقة.. بأنها وب»دولاراتها» وطائراتها وإعلامها ومندوبيها ورجال أعمالها الذين أصبحوا يترددون على الجنوب السوداني ومنطقة «أبيي» بأكثر من ترددهم على ولايات كليفورنيا وشيكاغو وفلوريدا.. قادرة على شراء أصوات أبناء منطقة «أبيي» لصالح الانضمام إلى دولة جنوب السودان المسيحية الجديدة، والغنية، والتي ستحظى برعاية الولايات المتحدة وحدبها.. بدلاً من الانضمام إلى دولة الشمال الإسلامية وصراعاتها السياسية والمذهبية ومحدوديتها الاقتصادية.. تماماً كما ستفعل عند إجراء استفتاء الجنوبيين في يناير القادم إن تم ذلك..!!
إن ل «الفرنسيين» رأياً حصيفاً عميقاً دالاً.. في مواجهة الأحداث والمشاكل والقضايا السياسية والاجتماعية التي تظهر فجأة على السطح.. عندما يقولون: «فتش عن.. المرأة».. فهي السبب، أما الأمريكيون في المقابل.. فإن لهم رأياً براجماتياً بشعاً لا يخفونه: «فتش عن النفط»..!!
نعم. كان الصادق المهدي شجاعاً جريئاً في توصيفه ل»استفتاء» الجنوبيين ب»البقرة المقدسة» التي يتوجب ألا يمسها أحد.. خاصة من «السودانيين»، أصحاب القضية والأرض، ومن ستقع فوق رؤوسهم كارثة الانفصال أو جريمته القانونية حسب الجدول الزمني الأمريكي..!! بل وكان أكثر جرأة وشجاعة.. عندما قال بأن الولايات المتحدة الأمريكية إنما «تبيع الوهم للجنوبيين.. بزعمها، أنها سوف تجعل من دولة الجنوب إذا انفصلت نموذجاً ناجحاً»، فلم يخش أن يسأله أحد من الصحفيين أو مندوبي الوكالات: أين كان في دورتيه الرئاسيتين للوزارة من جنوب السودان وأحواله.. إن صدق كل ما كان يقال عنه من بؤس وترد وحرمان وإهمال..؟ وأين كان طوال تلك الفترتين - في أواخر الستينات ومنتصف الثمانينات من القرن الماضي - من إقامة حكم عادل متوازي الحقوق سياسياً وتنموياً.. بين طرفي الوطن، أو التأسيس له على الأقل.. يحول دون هذه التدخلات الأمريكية الفاضحة.. ودون الوصول إلى «نيفاشا»، والتوقيع على وثيقة «الاستفتاء» المبكية المدمرة لوطن.. هو الأكبر بين أوطان إفريقيا قاطبة..؟
على أننا لابد وأن نقول إنصافاً.. بأن مثل هذه الأسئلة القاسية أو المحرجة وغيرها لا يصح أن توجه للسيد الصادق المهدي وحده.. بل ل»كل» الزعامات والقيادات السودانية التي تعاقبت على كراسي الحكم.. في السودان الواحد والكبير، من الفريق عبود.. إلى الفريق الرئيس عمر البشير وما ومن بينهما.
ومع ذلك، يبقى سؤالان..أحدهما للإخوة في الجنوب السوداني الذين تصورهم آلة الإعلام الغربي بأنهم مندفعون كالإعصار نحو «الاستفتاء» وصولاً ل»الانفصال».. سعياً وراء تحقيق إقامة النموذج الأمريكي فوق دولتهم الجديدة: هل نسيتم - أيها الجنوبيون الطيبون - النموذج الأمريكي في «العراق».. بعد سبع سنوات من الاحتلال والدمار والتنكيل، والمظالم والبطالة ف»الهجرة»..؟
أما السؤال الآخر.. فهو ل»النخب» والأحرار والقوى الفاعلة في كل مكان من المعمورة: ماذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية ستفعل بدول العالم و»الثالث» منه على وجه الخصوص.. لو أنها لم تكن تملك كل هذه الثروات والأراضي الغنية بسهولها وحقولها ومناجمها..؟!
JAZPING: 5599