رحلوا فأية عبرة لم تسكب
أسفا، وأي عزيمة لم تغلب
كم هو مؤلم ومحزن فقد رفاق الصبا والصغر، وتواريهم عن أنظار أحبتهم في باطن الأرض!، فكلما يفكر الإنسان في تلك الأيام الفارطة، والسويعات الجميلة التي قضاها أيام طفولته مع أولئك الزملاء ورفاق العمر فإنه قد يجهش بالبكاء، ولاسيما من كان ذا صلة بهم: قرابة أو جواراً، فحزنه يطول بتذكرهم كلما خلا بنفسه، ثم يأذن لشريط ذكرياته معهم وما قد جرى بينهم من تآلف وتواصل في تلك الحقب بعيدة المدى، وما يتخللها من مرح ومزاولة للألعاب المحببة إليهم ولأمثالهم في مسارح لهوهم ومراتع صباهم، ولاسيما في أوقات الآصال وفي أوائل الليالي المقمرة - أي قبل وجود المصابيح الكهربائية- وتعتبر تلك الفترة العمرية من أحلى أيامهم وأبقاها صدى بين جوانحهم ومسارب خواطرهم:
أيام كنت أناغي الطير في جذل
لا أعرف الدنيا وبلواها
فمن أولئك الزملاء زميل الصغر الأستاذ الفاضل/ راشد بن عبدالله المبارك الذي سبقنا إلى مراقد الراحلين في 24-7-1420هـ - تغمده الله بواسع رحمته - فقد ظل فقده هاجس النفس منذ أن رحل عنا إلى الدار الباقية هو ومن سار على دربه من أحبه ورفاق درب، فغيابه أحدث فجوة واسعة وفاصلة في منظومة الزملاء والأصدقاء الذين سعدنا بصحبتهم ورؤيتهم بين حين وآخر، ولقد بدأ حياته الدراسية في إحدى مدارس الكتاب لتحفيظ القرآن الكريم وتعلم الخط بحريملاء لدى المقرئ (المطوع) الشيخ محمد بن عبدالله الحرقان - رحمه الله - وفي أثناء تلك الفترة توفي والده عبدالله أحد أمراء حريملاء الأخيار. ومما هو جدير بالذكر أن والدنا الشيخ عبدالرحمن بن خريف - رحمه الله - قد رآه في المنام بعد وفاته - أي عبدالله- وكأنه في بستان نخل بحريملاء يسمى (سعادة) محتضناً قنوان تمر بأعلى النخلة، فأثنى عليه فقال هذه الرؤيا بشرى خير له - رحمه الله-، ثم طلب خاله الشيخ ناصر بن حمد الراشد الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمكة المكرمة - آنذاك - حضوره هو وشقيقه مبارك فاحتضنهما داخل بيته واهتم برعايتهما - رحمه الله - فألحقهما بالمدرسة الرحمانية حتى نالا الشهادة الابتدائية عام 1369هـ بعد ذلك ألحقهما بدار التوحيد بمدينة الطائف عام 1370هـ لعلمه بمتانة مناهجها في المواد الدينية واللغة العربية، ثم انتقلا إلى الرياض بعد افتتاح المعهد العلمي 1371هـ مع لفيف من الزملاء أمثال: سعد بن عبدالعزيز الصفيان، وعبدالعزيز بن صالح أبو حيمد، صالح بن سليمان الحميدى، وغير أولئك من الشباب، حتى نال الشهادة العالية بكلية اللغة العربية عام 1377هـ ويعتبر من الدفعة الأولى بها..، وقد حظي هو وزملاؤه بتكريمهم في حفل بهيج أقامه الرئيس العام لكليتي الشريعة واللغة العربية سماحة الشيخ المفتي محمد بن إبراهيم آل الشيخ وأخوه فضيلة الشيخ عبداللطيف برعاية جلالة الملك سعود -رحمهم الله جميعاً- فاستلموا الجوائز من يد جلالته وهي عبارة عن ساعات يدوية ثمينة احتفظ كل واحد منهم بهديته تذكاراً خالداً لذلك الحفل المميز الذي يدل على عناية ولاة أمر هذه البلاد بطلاب العلم وتشجيعهم، والفرح بتفوقهم حيث شد على أيديهم قائلاً أنتم رجال الغد..، ثم عين مدرساً بالمعهد العملي بالرياض لمدة عامين، وبعد ذلك انتقل إلى جهاز وزارة المعارف موجهاً، ثم أعير مدرساً ضمن البعثة السعودية للجزائر عامي 1385-1386هـ، وبعد انتهاء مدة الإعارة عاد إلى نفس عمله بالوزارة، وأخيراً عين مديراً عاماً للتعليم الأهلي - تعليم الكبار- حتى تقاعد وأخلد للراحة إلى أن توفاه الله -رحمه الله - كما كان عضواً فاعلاً من أعضاء اللجنة الأهلية القدامى الذين تحقق الشيء الكثير من مطالباتهم الجهات العليا لتطوير مدينة حريملاء: مثل افتتاح المستشفى العام مبكراً وعدد من المدارس، والمعهد العلمي، والسد العملاق، والضمان الاجتماعي، والإسراع بمد الطريق صوب حريملاء، بل وجميع متطلبات البلاد وما جاورها..، كل ذلك تحقق في ظل حكومتنا الجليلة الحريصة على تطوير المدن الصغيرة والأرياف لتقل الهجرة إلى أوساط المدن وتخفيف الزحام عنها، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:
إذا الحمل الثقيل توزعته
أكف القوم خف على الرقاب
كما كان أبو هشام -رحمه الله- من المشجعين والمشوقين لي على الالتحاق بدار التوحيد بالطائف التي تعتبر أول مؤسسة علمية أسسها جلالة الملك عبدالعزيز واعتنى بطلابها -طيب الله ثراه- وأمله أن تخرج أفواجاً متتابعة من العلماء والقضاة والخطباء في المساجد في كبريات المدن والأرياف، وقد اختار مدينة الطائف أن تكون مقراً لها رغم بعدها عن منطقة نجد لاعتدال جوها وطيب مناخها، ولأجل أن يبتعد الطلاب عن مشاغل أهليهم ليتفرغوا في النهل من حياض العلوم النافعة على أيدي نخبة مختارة من فطاحل علماء الأزهر، وبعض العلماء الأجلاء من الداخل..، كما أن طلابها يحظون برعاية خاصة واهتمام بالغ من جلالته، ولقد كان لنا مع الأستاذ الراحل راشد وشقيقه الأستاذ مبارك أجمل الذكريات وأمتعها حيث يتخلل تلك الفترة الزمنية رحلات متعددة ومسامرات أدبية تبهج النفوس وتصقل المواهب، فجونا في تلك الأزمان جو علم وثقافة، كما أن أبا هشام له باع طويل في الخطابة والارتجال، أذكر جيداً اختياره لإلقاء كلمته أمام جلالة الملك سعود -رحمه الله - أثناء تشريفه لمدينة حريملاء عام 1374هـ، كما ألقى في تلك المناسبة السعيدة الشيخ محمد بن صالح بن سلطان وكيل وزارة الدفاع - آنذاك - كلمة ترحيبية ارتجاليه ضافية نالت إعجاب الحضور -رحم الله الجميع-، كما عرف عن الأستاذ راشد الإخلاص والتفاني في أداء جميع الأعمال التي زاولها بكل جد ونشاط، فهو موصوف ببشاشة المحيا ولين الجانب وحب العمل الخيري.. ولئن غاب عنا أبو هشام فإن ذكره العاطر باقٍ في نفسي:
فإن تكن الأيام فرقن بيننا
فلقد بان محمودا أخي، يوم ودعا
عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف