هو الموت لا يطرق الأبواب، ولا يمنع منه حجاب، ولا يستأذن أحداً، ولا تعلم نفس متى تموت، ولا في أي أرض تقبض، فالموت خير واعظ، وإنما الدنيا دار ممر لا مقر، وكل من على هذه البسيطة فان، قال تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ).
كما أن الصحة لا تدوم لإنسان قال كعب بن زهير رضي الله عنه:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوماً على آلة حدباء محمول
ومما قال (راعي الداخلة) في رثائه لابنه عبدالرحمن - رحمهما الله - عام 1349هـ:
هذا الموت اللي ما تاقف
دونه حجاب السلطاني
هذا الموت اللي لو فته
وخليته خلفي لاقاني
هذا الموت اللي ما يرحم
طفل ولا شيخ فاني
هذا الموت اللي موكل
يفنى العالم الإنساني
ولكن عندما يفتقد عزيز علينا فإن الحزن لفراقه يخيم، وذكرى الأيام التي جمعت به تستذكر، وأيضاً فإن من الرجال رجال نوادر، وفيهم من يعد بعده رجال، ولا بقي لأحدهم مقال يكتب، وإنما هي كلمة موجزة في تأبين الرجل الفاضل الصالح والمربي الموفق محمد بن إبراهيم بن علي الموسى، الذي يعود نسبه إلى آل مرشد من بني عمرو بن تميم من حوطة بني تميم، عاش طفولته يتيماً وحيداً، إذ ليس له من الإخوة إلا أخ من أمه، وهو إبراهيم آل راشد من آل حسين ومات - رحمه الله - في شبابه قبل أن يتزوج، وقد انتقل محمد بن إبراهيم الموسى - رحمه الله - من حوطة بني تميم إلى مدينة الرياض عندما كان عمره أربعة عشر عاما، وبدأ يعمل في التجارة من الصغر، وكان يرسل ما يحصل عليه في تجارته إلى والدته مريم آل شريم لأجل أن يتزوج، فلما عزم على الزواج رحل إليها، وطلب منها ما اجتمع عندها من مال، قالت: يا ولدي كلناها ما عندي شيء، ولقد كان واصلاً لوالدته وأقاربه وبني عمه، فكان يزورهم في الحوطة كلما سنحت له فرصة، كما عاش حياته التي تزيد عن سبعة عقود مكافحاً صابراً عزيز النفس شهماً، ولقد كان أحد أعمدة (حارته) التي يسكن فيها، ومن القصص التي يحسن ذكرها أن لدى أحد جيرانه سيارة تحتاج إلى إصلاح ولا يستطيع إصلاحها لفقره، فاشتراها منه لإصلاحها وإعادتها إليه، لئلا يشعر بأنه إنما أراد إصلاحها فحسب فتجرح مشاعره، فلما أصلحها أعادها لجاره، فأعاد الجار قيمتها له، كما كان في الرياض (منصا) لرفاقته وهم - جماعته - القادمون من حوطة بني تميم إلى الرياض، ويقوم بواجب ضيافتهم، وذلك بعدما اشتهر في سوق بيع القماش، ومن القصص التي حدثني بها من أثق به بقوله: قدم أناس من رفاقته من أهل الحوطة يريدون شراء مكينة للمزرعة، وقد جمعوا ما لديهم من مال فاشترى لهم تلك المكينة من ماله ولم يأخذ منهم شيئاً، وكانت قيمتها من ثمانية إلى عشرة آلاف ريال، في وقت كان الريال يساوي أضعافه هذا الزمن، فشكروا له ذلك، ولا يزالون يذكرونها له وهو - رحمه الله - من قلائل الرجال الذين نذروا أنفسهم في تربية أبنائهم التربية الصالحة، وقد حدثني أحد أبنائه أنه كان حريصاً عليهم في حال صغرهم، فكان يشجعهم على التبكير في الحضور للصلاة، ومن يصلي منهم في الصف الأول يكافئه على ذلك، إلى أن ألفوا التبكير لها، كما كان يؤدب من يتأخر منهم عن الصلاة مع الجماعة عموماً وخصوصاً صلاة الفجر، فتربى أبناؤه على ذلك وشبوا عليه، ويحسن في ذكر صفاته التي أعرفها عنه، فأحسبه أنه ذو أخلاق فاضلة نبيلة، يشهد بذلك له جيرانه وأقاربه، ولا أعلم أحداً إلا ويذكره بخير، فمن صفاته التواضع والكرم الجبلي، كما كان يحث أبناءه على الكرم، ويقول لهم دائماً: إذا طرق الباب ضيف يسأل عني وأنا غير متواجد فقوموا بضيافته، ثم أخبروه أني غير موجود، وكان يفرح ويثني على من يمتثل منهم لذلك، فتربى أبناؤه على الكرم، ولقد نشأت بيني وبينه مودة ومحبة في الله تعالى، وكنت لمست تلك المحبة من المجالس التي جمعتني به، فقد كان يسدي النصيحة، ويشير عندما يستشار بما يراه مناسباً، ولقد أفدت من مجالسته ما كتب الله لي، إذ كنت أزوره بين الحين والحين في منزله أو في محله التجاري، وأرى منه الحفاوة والترحيب والكرم والبشاشة، ومما يحسن ذكره ذلك الكفاح والكدح الذي رأيته منه، فبالإضافة إلى عمله الوظيفي وبما لا يتعارض مع النظام، فقد افتتح محلاً تجارياً يقضي فيه وقته من العصر إلى العشاء، ولقد رأيت من تسامحه في البيع ما جعلني أرجو أن تشمله دعوة النبي صلى الله عيه وسلم في قوله: (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى سمحاً إذا اقتضى) ومعنى اقتضى أي طلب حقه، وعن عثمان رضي الله عن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أدخل الله الجنة رجلاً سهلا، بائعاً ومشترياً) صححهما الإمام الألباني في باب السماحة في البيع في صحيح ابن ماجة، ومن نعم الله على عبده الذي يحبه أن إذا أراد قبض روحه ابتلاه بمرض يكفر الله به عن خطاياه حتى لا يبقى عليه ولا خطيئة أو ليرفع درجته في الجنة ما كان سيبلغها إلا بذلك الابتلاء، فيقبض روحه بعد ذلك، عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم ابتلاه الله في جسده إلا كتب له ما كان يعمل في صحته ما كان مريضاً فإن عافاه - أراه قال - غسله (وفي رواية: وإن قبضه غفر له، وإن شفاه غسله) صححه الإمام الألباني في باب يكتب للمريض ما كان يعمل وهو صحيح في صحيح الأدب المفرد، وفي ليلة عيد الفطر لهذا العام أصيب بأزمة صحية أدخل على إثرها في مستشفى الأمير سلمان، وفي صبيحة يوم العيد تم نقله للعناية المركزة في مستشفى الحمادي، وأمضى عدة أيام ثم نقل إلى غرفة عادية، وبعد يومين قرر الأطباء إجراء عملية قسطرة للقلب، يوم الخميس السابع من شوال لهذا العام، ومات قبيل إجرائها في غرفة العمليات في الساعة الثامنة ليلة الجمعة وغسله أبناؤه فواز وعاصم وعبدالله، وطيبه ابنه موسى، وصلى عليه صلاة الجنازة بعد صلاة الجمعة الثامن من شوال لهذا العام وذلك في جامع عتيقة الرياض، ودفن في مقبرة جنوب الرياض، وأنزله في قبره ابناه فواز وعاصم وأيضاً علي آل حسين، ولئن مات - رحمه الله - فلن يموت ما خلفه من ذكر حسن وأبناء نحسبهم والله حسيبهم صالحين من ثلاث زوجات، وهن أم إبراهيم وأم فهد، وأم عاصم، ولا ريب أن في استعراض سيرته دروسا يعقلها ذوي العقول، ويفيد منها من تأملها، أسأل الله أن يغفر له وأن يسكنه الفردوس الأعلى في الجنة وأن يعفو عني وعنه برحمته وعفوه وكرمه سبحانه.
عمر بن عبدالله بن مشاري المشاريخطيب جامع بلدة الداخلة في سديرmashri22@gmail.com