العودة إلى المدارس كثيراً ما تبدو هماً عاماً، كونها تشهد حالة استنفار قصوى من قبل العائلات، سواءً بالنسبة لتوفير المستلزمات الدراسية، أو التنسيق بخصوص وسائل النقل، أو حتى تسجيل الأبناء في المدارس من قبل (عائلات اللحظة الأخيرة)، لهذا يبدو المشهد مألوفاً
في محلات القرطاسية أو البضائع المخفضة، التي تعكسها إعلانات الصحف عن تلك المستلزمات، أو ملصقات الجدران عن نقل الطالبات والمعلمات.
غير أن هناك مشهداً آخر يرافق تلك العودة ويُطل علينا - تحديداً - مع بداية العام الدراسي، وتتفاعل تداعياته على ساحتنا الإعلامية، بحكم أن نجومه هم بعض النخبة من كتاب ومثقفين وإعلاميين، وأعني به (مسلسل الجدل حول المناهج الدراسية).
هذه المناهج التي لم تكد تتخلص من تهمة (الإرهاب) بفعل آلة الإعلام الغربي، حتى وقعت تحت مجهر النقد الإعلامي المحلي غير المتزن بدلالة تلك الضجة الإعلامية، التي انطلقت مع بداية العام الدراسي على خلفية مشاركة أحد الأساتذة الأكاديميين في تأليف كتب (الفقه والسلوك) للصف الأول ابتدائي، مستنكرةً تلك المشاركة، لأن هذا الأستاذ المشارك حسب ميزان تلك النخبة شخصية مثيرة للجدل، ومن أصحاب الآراء المنفرة، وبالتالي هي ترفض مشاركته، سواءً للمساعدة البحثية أو الإمداد المعرفي حمايةً للأجيال من أفكاره.
وهنا لست بصدد الخوض في تلك الضجة، إنما هي فرصة للتعريج على إشكاليتنا الفكرية مع النقد العام، وليتها انحصرت في الفرد العادي أو إنسان الشارع، إنما تجاوزته إلى (نخبة) ُيفترض فيها أن تمارسه وفق منهجية واعية، ومعايير واضحة، وتطبيقات عادلة، وليس حسب طريقة الكاوبوي (إن لم تكن معي فأنت ضدي)، أو وفق الرؤية الأحادية (مَآ أُرِيكُمْ إِلاّ مَآ أَرَىَ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرّشَادِ)، فالذين استنكروا مشاركة ذلك الدكتور الأكاديمي، كان ينبغي أن يكونوا منهجيين، بأن يقرروا حقوق المواطنة، التي تقول في أبسط أبجدياتها، إن له الحق في تلك المشاركة بحكم أنه مواطن سعودي اختير من قبل لجنة أقرتها الوزارة، والوزارة هنا تمثل النظام. زد على ذلك أن الذين افتعلوا تلك الضجة يغلب عليهم ما يسمى (التوجه الليبرالي)، فكيف يتجاهلون (القيم الإنسانية)، التي جعلتها الليبرالية الغربية معركتها التاريخية وثمرتها الحضارية - إن كانوا حقاً ليبراليين -، وارتباط تلك القيم بالحقوق الكبرى للإنسان الفرد مهما كان دينه أو عرقه أو لونه أو فئته، وهي (الحرية، الاختيار، الاستقلال) وما ينضوي تحتها من مبادئ سامية كاحترام الآخر، والمشاركة الحضارية، والمسئولية. فأين الليبرالية التي يتشدقون بها؟ أين ما تعلموه على موائد فلاسفة التنوير الغربي؟ أين المعاملة بالمثل؟ أين كل هذا؟ انتهى في لحظات.. لأن ذلك الأستاذ المشارك لا ينتمي إلى حياضهم الفكري.
أما أزمة النقد التي أشرت لها، فتبدو في تحويل القضية إلى (الشخص) وليس (الموضوع)، وهذه آفة النقد لأن الكبار هم من يناقشون (الأفكار)، والصغار هم من يناقشون (الأسماء)، وبينهما من يناقش (الأخبار)، لذا فالمنهجية الواعية في النقد والعادلة في التطبيق بشأن (المناهج الدراسية) أن تتعامل مع حقائق الواقع، وليس محاكمة النيات، فلا تنتقد مشروعاً معيناً قبل أن تطلع على محتواه، وتتحقق من مدى تطابقه مع رأيك، أو تعزيزه لوجهة نظرك، أو إثباته لفكرتك. فلا عليك من اسم فلان أو علان مادام مواطناً اختير من قبل جهة معنية بهذا الأمر، سواءً تصدّر قائمة المؤلفين، أو كان ضمن المشاركين في تأليف الكتاب أم لا؟ المهم أن تتفحص الكتاب وتحاول رصد المخالفات التربوية أو الأخطاء العلمية، التي يرفضها الدين والعقل والعلم والمجتمع.
وبهذا تكون قد برهنت على ما تقول، كما أن المنهجية الواعية في النقد تقول بالبحث في عمل لجنة تطوير المناهج، ومعاييرها في هذا التطوير، ومدى تطابق الرسالة التعليمية مع مواضيع المناهج المطورة.. وغير ذلك مما يدخل في برنامج تطوير المناهج، خاصةً أن مشروع تأليف الكتاب في إطار هذا البرنامج يمر بمراحل مراجعة وتعديل وهو بالأخير يتم تحت مظلة النظام الحكومي، الذي تمثله وزارة التربية والتعليم.