في الطريق لإجازتي السنوية الماضية.. توقّفت كعادتي في «القاهرة» لليلة واحدة وبعض يوم، لأرى بعضاً من أصدقائي فيها.. ممن عرفتهم وأحببتهم وتوثّقت بيني وبينهم أعمق الصلات وأكثرها حميمية عبر الأيام والسنين،
ولأستمع إلى ما لديهم من أخبار وحكايات وشائعات.. مما لا يُذاع ولا يُنشر.. سواء في الأدب والفن والمسرح أو في السياسة والاقتصاد و»هبر» القروض البنكية، أو «الأراضي» الذي أصبح إحدى علامات عهد رجال الأعمال المتصدّرين في مصر.. ثم لأسوح معهم في رحلة تقصي لأحدث «النكات» و»القفشات» التي يطلقها الشارع المصري.. باعتبارها أحد أهم مؤشرات الرأي العام، أو الوجدان الشعبي المصري وتوجُّهاته.. بصفة عامة!!
ما بين مقهى «شبرد» في الدور الأرضي من مبناه على «كورنيش النيل» في حي «جاردن سيتي»، الذي واصلت التردُّد عليه إحياءً لذكرى عميد جلساته وأركانه الصديق العزيز والصحفي الكبير الأستاذ عبدالله إمام.. بعد فقده، و»مقهى» مركز الـ»أركيديا»، الذي يحتل أهم وأكبر مساحة من دوره الأرضي.. كانت الأحاديث تتواصل مع نفر من أولئك الأصدقاء.. وكان الاستماع إليها يتواصل من جانبي، إلى أن سرب لي أحدهم أحدث قفشة ساخرة عن رجال الأعمال.. تقول بأنّ أحد هؤلاء كان يصطحب على الدوام زوجته المتواضعة جمالاً وأناقة.. في معظم سفراته، فقال له أحدهم مستنكراً: لماذا تحرص على اصطحاب زوجتك.. في كل رحلاتك التجارية؟
فقال له: حتى لا أضطر.. إلى تقبيلها كلما عدت من رحلة من رحلاتي الكثيرة..!!
ومع انطلاق ضحكاتنا في أرجاء المقهى.. كان أحدهم ينبّهني إلى أنّ صحيفة «الأهرام» أشارت على ظهر صفحتها الأولى إلى «حديث في العمق مع شيخ الأزهر».. ستنشره في صبيحة اليوم التالي (العاشر من يوليو 2010م).. أجراه الأستاذ مكرم محمد أحمد أحد كتّاب أعمدتها اليومية، وهو صحفي مخضرم، كبير بـ»عروبته» واستقامته وغيرته الوطنية.. وقد عرفته لسنين طويلة، منذ أن كان رئيساً لتحرير مجلة «المصور» ثاني أو ثالث أشهر المجلات المصرية الأسبوعية.. يفرد آخر صفحاتها أسبوعياً لقلم الكاتب الساخر والفنان الأستاذ محمود السعدني.. إلى أن اعتلّت صحته، ولم يعد قادراً على الكتابة.. فامتنع عن نشر أي مقال آخر عليها، وأبقاها «بيضاء».. تحمل عنوان «الباب» الذي كان يكتب تحته الأستاذ السعدني (على باب الله) و(توقيعه).. معيداً بذلك إلى الأذهان «قيماً» غادرتها صحافة هذه الأيام. لقد ظل يفعل ذلك.. إلى أن غادر رئاسة تحريرها بعد انتخابه نقيباً لـ «الصحفيين»، ليتحوّل في تقاعده.. إلى كاتب يومي في الأهرام، يصل إلى «جدة».. قبل عامين أو أكثر قليلاً في معيّة رئيس مجلس إدارتها الأستاذ مرسي عطا الله لـ»تدشين» الطبعة الخليجية للأهرام في المملكة.. لأكون من بين حضور العشاء الذي أقامه السفير الدكتور علي العشيري على شرف بعثة الأهرام.. فينزاح غبار السنين بتجدُّد اللقاء معه، ليفوح عطر المحبة بيننا مجدداً..
ومع ذلك كله.. قلت للصديق الذي نبّهني إلى «الحديث»: لكنني.. وبكل أسف لن أتمكن من قراءته صباح غد، إذ إنني سأكون في العاشرة صباحاً على ظهر الطائــرة المغادرة إلى «جنيف».
فقال ضاحكاً: إذاً ستجد «الأهرام».. على الطائرة إذا كنت مغادراً على الطيران المصري.
على الطائرة.. كان عدد «الأهرام» بين يدي، وعلى صفحته الأولى إشارة لـ»الحديث» - بيت القصيد - الذي أجراه الأستاذ مكرم مع فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الجديد: الأستاذ الدكتور أحمد الطيب.. الذي كنت أتابع بداية استضافته الأسبوعية على الفضائية المصرية، فتستغرقني طمأنينة وسعادة إجاباته المستنيرة الواعية على مشاكل العصر عبر مداخلات مشاهدي برنامجه.. عندما كان مديراً لـ»جامعة الأزهر»، وأحسب أني لذلك كنت واحداً من آلاف مشاهديه خارج مصر أو ملايين مشاهديه داخلها الذين أسعدهم نبأ اختياره «شيخاً للأزهر».. خلفاً للدكتور سيد طنطاوي، الذي وافته المنية في عاصمتنا (الرياض) أثناء تلبيته دعوة أمانة جائزة الملك فيصل العالمية.. لحضور حفل توزيع جوائزها السنوي على الفائزين بها للعام الماضي.
احتل الحديث.. الصفحة الرابعة بكاملها من عدد ذلك اليوم.. ودون أي إعلان من تلك الإعلانات المزعجة، سواء عن مساحيق الغسيل المصرية المتكاثرة أو الوجبات السريعة الأمريكية المنتشرة في القاهرة وغيرها كانتشار النار في الهشيم.. إكباراً لضيف الحوار وإجلالاً لموضوعه، وقد تصدّر نشر الحديث.. عناوين صحفية ملفتة - بعرض الصفحة - صاغتها مهنية الأستاذ مكرم وحرفيته.. كقول بعضها: «لا يصلح السيف رمزاً للإسلام لأنّ الإسلام رحمة وعدل»!! و»حفاظ المسلم على علاقات طيبة مع جاره القبطي تكليف ديني.. يثاب عليه يوم القيامة»!! و»ما من مؤسسة دينية في العالم يمكن أن تكون خارج دولتها، والأزهر لا يحمل أجندة الحكومة ولا يبارك كل أفعالها».. إلى آخر ما جاء في تلك العناوين العريضة، الجريئة والشجاعة و»المشهية» لقراءة حديث بهذا الطول، الذي ما كان يهمني بحال على المستوى الشخصي حتى ولو استغرق صفحتين لا صفحة واحدة.. بقدر ما كان يهمّني الحديث نفسه ومحتواه ونصوص ما قاله الشيخ بـ»لسانه»، والتي أذكر أنني توقّفت عند الكثير منها إعجاباً وسعادة عند القراءة الأولى له.. مما أجبرني على إعادة قراءة الحديث ثانية.. ثم إلى الاستئذان من «المضيفة» في أخذ «العدد» معي عند نزولي من الطائرة.. لأتمكن من قراءته «ثالثة» وعلى مهل، وهو ما حدث.. ليسطع أمامي الشيخ الطيب.. وقد أخد مكانه بين رواد الاستنارة الإسلامية ممن عرفتهم من الحريصين على دين الله والذّود عنه وتنقيته من فتاوى الجهلاء والمغرضين من أمثال الشيخ شلتوت، والطنطاوي، والغزالي والقرضاوي، والعودة، وقد آنست في نفسي.. رغبة في الكتابة عنه احتفاءً به, وتقديراً لما جاء فيه من إشراقات وسط هذه الضبابية السياسية الدينية التي يعيشها عالمنا اليوم..!؟
ولكن ولأنّ الحديث طويل.. طويل، فسأكتفي بالوقوف عند بعض من أهم وأجمل ما جاء فيه، كرد الشيخ الطيب على سؤال الأستاذ مكرم الافتتاحي.. عن «الوسطية» في الإسلام، وتعريفه لها؟
عندما قال: (فيما يتعلق بتعريف الوسطية، فإني أرى أنّ الإسلام يساوي الوسطية، والوسطية تساوي الإسلام، وهذه الحقيقة ليست امراً مستنبطاً صدر عن أذهان العلماء أو استقراءً جاء به نفر من الشرَّاح وإنما هو أمر منصوص عليه نصاً واضحاً في القرآن.. في الآية الكريمة ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ? سورة البقرة آية 143)، والوسطية هي العدل، والرسول عليه السلام قال «أوسطكم أكثركم عدلاً»). ثم ليضيف بعد ذلك.. إضافة توضيحية رائعة عندما قال: (وسطية الإسلام ليست وسطية أرسطو الذي يعتبر الفضيلة وسطاً بين رزيلتين، ولا هي وسطية رياضية أو حسابية، وإنما هي وسطية أخلاقية اجتماعية كونية، تنظر إلى الكون بمعيار المفاضلة العادلة بين نقيضين متضادين: أن تكون مادياً حسياً كما كان بنو إسرائيل في التوراة، يحلّون قتل الآخر وخداعه بل وسرقته إن كان على غير دينهم من الأغيار.. أو أن تكون روحانياً تعطي للآخر خدّك الأيمن إن صفعك على خدك الأيسر، وإذا طلب أحد رداءك تتركه له حتى لو كنت محتاجاً إليه كما تقول المسيحية، أما الإسلام فيتبنّى قاعدة مغايرة {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} (سورة النحل آية 126)، ثم يكمل (في الإسلام يتحدّد موقف المسلم بأن يكون وسطاً بين المادة الروح، يعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً ويعمل لآخرته كأنه يموت غداً، وليس مقبولاً من المسلم أن يغفل عن دنياه لصالح آخرته أو العكس. وهذه الوسطية هي التي صنعت حضارة الإسلام ونشرت الدين الإسلامي، وجعلت أقواماً عديدين يقبلونه باعتباره دين الفطرة وطوق النجاة الذي ينقذ البشرية من جاهليتها).
ليتساءل الأستاذ مكرم قائلاً: ولكن (هناك في الغرب من يصر على أنّ الإسلام انتشر بحد السيف).؟
فيجيب الشيخ: (ليس صحيحاً أنّ الحضارة الإسلامية فرضت نفسها على العالم بحد السيف. الإسلام انتشر في العالم لأنه دين الفطرة ودين العقل الذي خاطب عقول الناس وقلوبهم، وساوى بين البشر ودعا إلى العدل.. ولا يصلح السيف رمزاً للإسلام لأنّ الإسلام رحمة وعدل، والمسلم لا يحمل سيفه عدواناً على الآخرين، وإنما يحمله للدفاع عن الأرض والوطن والعقيدة، والإسلام يحض المسلم على أن يكون قوياً قادراً على الدفاع عن وطنه ودينه ونفسه، لكنه لا يحرضه على العدوان على الآخرين).
ليضيف الشيخ في سياق إجابته على سؤال آخر حول «تكليف» المسلم.. قائلاً: (أنا كمسلم لست مكلفاً بأن أحمل السيف لأظهر الإسلام على الدين كله في هذا العصر، لكن مكلف بالتعارف والتواصل وتبادل المنافع مع الشعوب الأخرى، ولو أنك استعرضت القرآن آية آية لن تجد ذكراً للسيف على الإطلاق، وهذا ما لم يتنبّه إليه كثيرون، على حين ذكر سفر يوشع في التوراة السيف 31 مرة. أبيدوهم بالسيف، واقتلوهم بالسيف الرجال والنساء والأطفال والحمير والبهائم.. وبرغم ذلك يتحدثون عن الإسلام باعتباره دين عنف)!!
ومع تعقيب الأستاذ مكرم الذي يبدو أنه استعان فيه بمتخصصين في علوم القرآن عند الإعداد لحواره هذا.. مما جعله يقول: (ولكن هناك من الدعاة من يتحدثون عن آية السيف في القرآن الكريم التي تدعو إلى قتال الكفار).. إلى آخر ما جاء في تعقيبه على الشيخ، إلاّ أنّ الشيخ ردّ موضحاً.. وواصلاً إلى بؤرة الهدف من وراء تعقيب الأستاذ مكرم، عندما قال فضيلته: (آية السيف(*) نزلت في أمر الخارجين على الدين الذين قاتلوا المسلمين وأخرجوهم من ديارهم وأوقعوا بالمسلمين ظلماً شديداً، وهذا ما يؤكده سياق الآية في إطار ما سبقها وما لحقها من آيات، والفكر القرآني الصحيح ينص على أنه لا إكراه في الدين، وعندما خاطب الله الرسول الكريم قائلاً: ?أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ? (سورة يونس آية 99)، كان القصد من الاستفهام في أول الآية إنكار أن يُكره الرسول الكريم الناس على الإيمان).
لأختتم بعد هذا.. بتلك الإشراقة التي جاءت في ختام ذلك الحديث الكبير بموضوعه وبشخص المتحدث فيه (شيخ الجامع الأزهر).. عندما سأله الأستاذ مكرم عن (الفتنة التي تستعر الآن من جديد بين السنّة والشيعة في العراق) مستوضحاً: (هل يجوز حربهم)؟
ليجيب الشيخ: (الحرب بين السنّة والشيعة فتنة كبرى.. وحرام حرام، نرجو الله أن يدرأ أخطارها، ولا أظن أنها سوف تحدث لأنّ الجميع يعرف عواقبها).
وبعد..
فقد كان الحديث الذي أجراه الأستاذ مكرم مع فضيلة شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب.. عظيماً بحق: كان معلماً وملهماً ومؤثراً.. إلى أبعد درجات التأثير، ولست أدعي بأنّ هذه السطور التي كتبتها عنه قد أوفته بعض حقه.. على أنني أعترف بأنها تأخرت عن موعدها، فهي تحية متأخرة لـ»حديث مبكر» ولكن وكما يقول بعض الأوروبيين: «أن تأتي متأخراً.. خيرٌ من أن لا تأتي».
* * *
(*) المقصود بها الآية الخامسة من سورة (التوبة).. كما أفادني أحد المختصين مشكوراً. جدة