شهد الخميس الفارط، إسدال الستار على النسخة الرابعة من سوق عكاظ المعاصر. الأنشطة والفعاليات توقفت، ولكن الأشغال والاستعدادات بدأت من جديد، من أجل إطلاق النسخة الخامسة من السوق في العام القادم. عكاظ بدأ قبل أربعة
أعوام، لكي يتجدد ويتطور، ولكي ينطلق من أرض الطائف المأنوس، إلى آفاقه العربية والعالمية، بصورة عصرية جذابة، تليق بالمملكة العربية السعودية، وتمثل شعبها وأدبها وثقافتها.
- الذين قالوا عن الجزيرة العربية بأنها: (أرض جرداء لا زرع فيها ولا ماء)، ليس بوسعهم تحييد العقلية العربية المفكرة عنها، ولا نفي العبقرية عن أبنائها، من تقدم منهم ومن تأخر. انظروا إلى العقلية العربية التي أنتجت فكرة (سوق عكاظ) قبل ما يقرب من ألف وخمسمائة عام. إن فكرة (سوق عكاظ)، هي فكرة عبقرية حقاً، وتعلُّق الذهنية العربية بها طيلة هذه القرون الخمسة عشر، فيه من الدلالة ما يكفي، على النبوغ والتفرد الذي ميزه سوق عكاظ في هذا الجزء من العالم.
- في إمكان المتتبع لتاريخ السوق، أن يرسم خارطة لمسيرته منذ البدء حتى اليوم. الفكرة ولدت في القرن الخامس الميلادي على الأرجح، ثم نمت ونضجت وتألقت قبيل ظهور الإسلام، وظلت حية حتى السنة 129هـ. في هذه السنة المشؤومة، سقطت دولة الخلافة الأموية، وسقط معها صرح ثقافي عربي شهير هو سوق عكاظ، لكن المفارقة العجيبة حقاً، أن التطرف الديني هو الذي أسقط السوق، وليس سقوط الدولة المركزية، فالخوارج الحرورية أطفؤوا شعلة ظلت متأججة طيلة ثلاثة قرون، ثم هي بقيت خامدة بعد ذلك ثلاثة عشر قرناً، حتى تم توحيد المملكة على يدي القائد المؤسس الملك (عبدالعزيز آل سعود) طيب الله ثراه، فتوفر لهذه البلاد الأمن والاستقرار، وتفرغ ملوكها من بعده لمواصلة التحديث والتطوير، وكان الملك سعود رحمه الله، على نهج والده في الأخذ بأسباب التقدم والرقي، وفي ظل هذه الأجواء المثالية داخل الدولة الموحدة، قيض الله لفكرة عكاظ، الملك الشهيد (فيصل بن عبدالعزيز) رحمه الله، الذي بعث فيها الدفء في سبعينيات القرن الميلادي الماضي وحتى قبل هذا التاريخ، فانطلقت بذلك دراسات الدارسين، وبحوث الباحثين، وقصائد ومقالات الشجيين الفرحين بهذه الجذوة الجميلة المنتظرة، لعلامة فارقة في تاريخ العرب وأدبهم وثقافتهم وحياتهم.
- لو أمهل الله فيصلاً سنوات أخر في حياته الحافلة بالإنجازات العظيمة على طريق التحديث والنهضة، لظهر عكاظ في حياته وعلى يديه في وقت مبكر، ولكنها إرادة الله. فيصل رحمه الله، مهد الطريق لفيصل آخر حمل الراية من بعده، هو الأمير (فيصل بن فهد) رحمه الله، الرئيس العام لرعاية الشباب في تلك الفترة، فقد برزت إرهاصات بحثية وعملية وميدانية لبعث سوق عكاظ في أواخر السبعينيات الميلادية، ولكنها كلها سقطت بفعل التطرف الديني المتمثل في المشروع الصحوي، فتأجل تبعاً لذلك بعث الفكرة، لكنها ظلت مشتعلة في الذهنية الأدبية والشعرية، إلى أن سخر الله لها ابناً باراً من أبناء الطائف، هو (فهد بن عبدالعزيز بن معمر)، محافظها الوفي معها ومع أبنائها، الذي سابق الزمان، فحل إشكالية المكان، وكانت البداية عام 1408هـ، حين طلب من أمير منطقة مكة آنذاك الأمير (ماجد عبدالعزيز) رحمه الله، عقد ندوة كبرى تحت اسم (سوق عكاظ)، فعقدت الندوة على أرض عكاظ بجوار جبل الخلص، برعاية من الأمير (سعود بن عبدالمحسن)، نائب أمير منطقة مكة آنذاك، وحضرها نخبة من الباحثين والدارسين والكتاب ورؤساء تحرير الصحف، من بعد ذلك.. ارتفعت وتيرة المناداة ببعث سوق عكاظ مرة أخرى، ودارت سجالات كثيرة بين عدد كبير من الباحثين تطلب تحديد المكان وإحياء السوق، وفي عام 1417هـ، طلب المحافظ من أمير منطقة مكة، تشكيل لجنة وزارية لتحديد مكان السوق، فتمكن في العام 1418هـ، مع مجموعة من الباحثين والدارسين المختارين من قبل وزارة الداخلية في اللجنة الوزارية، من اختيار وتحديد مكان السوق، ثم بدأت أولى الخطوات العملية للإحياء عام 1424هـ، فتشكلت اللجان، وتجلت هذه الجهود المضنية مجتمعة، في الإنشاءات الميدانية التي شهدت إطلاق النسخة الأولى للسوق بسفح جبل الخلص عام 1428هـ، بعد موافقة من الأمير (عبدالمجيد بن عبدالعزيز) رحمه الله على إقامة حفل الافتتاح صائفة العام نفسه، وهو الحفل الذي رعاه الأمير (خالد الفيصل) بعد توليه إمارة منطقة مكة المكرمة.
- في حفل افتتاح سوق عكاظ المعاصر لأول مرة، رأينا في عيون أمير منطقة مكة المكرمة الجديد الأمير (خالد الفيصل)، صورة عكاظ الذي نتطلع إليها منذ زمن بعيد. (فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله)، أيقظ الفكرة العبقرية التي كانت نائمة، وها هو (خالد الفيصل بن عبدالعزيز)، يتولى رعايتها وتنميتها ودفعها إلى الأمام، حتى تصبح في مستوى أماني وطموح العرب الذين بكوا فقدها من قبل، وفرحوا ببعثها من بعد.
- منذ أكثر من ستين عاماً، يوم أطلق الملك فيصل رحمه الله عنان البحث في مكان وزمان وتاريخ وأدب وشعر سوق عكاظ، وإلى يوم الناس هذا، وهناك جهود كبيرة تبذل، منها ما هو رسمي وهو الأساس الذي تنطلق منه كافة جهود المجتهدين، ومنها ما هو ذاتي تطوعي، فكمٌّ كبير من الشعراء والباحثين والدارسين والكتاب، أسهموا بشكل واضح في دعم فكرة سوق عكاظ، وعززوا الموقف الإيجابي من إحيائها وبعثها، وحلوا الكثير من الإشكاليات التي اكتنفت مكان السوق بشكل خاص، وكمٌّ كبير آخر منهم ومن الناشطين في الميدان الثقافي، انخرطوا في لجان عمل دؤوب طيلة عشرين عاماً أو تزيد، من أجل بعث سوق عكاظ، وتقديمها في نسخة جديدة معاصرة في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك (عبدالله بن عبدالعزيز) حفظه الله، ومن هؤلاء المتطوعين الذين لم ولا ينتظرون أي مكافأة مالية تأتيهم، إلا فخرهم بهذا الإنجاز الحضاري العظيم، أمراء منطقة مكة المكرمة: (فواز وماجد وعبدالمجيد) رحمهم الله، ثم من بعدهم الأمير (خالد الفيصل) حفظه الله، ومحافظ الطائف، ومسؤولي هذه المحافظة كباراً وصغاراً، وشعرائها وأدبائها ومؤرخيها وكتابها، ومن كان معهم في هيئات ولجان من مختلف مدن المملكة. هؤلاء كافة، أسهموا في تحقيق هذا المنجز الثقافي الكبير، متطوعين غير مكرهين ولا متكسبين، فهم (فزيعة) أو (فزعلوجيا) كما يرى (بعض) ممن جاء من بعدهم، فاصطف قبلهم في هذا المضمار، ورأى أنهم متطفلون على مائدة المشهد العكاظي، فلا حاجة إذن لهم في هذا الوقت..!
- أقول هذا، وأنا فخور غاية الفخر، لأني واحد من هؤلاء (الفزعلوجيين) المتطوعين حباً لا كرهاً ولا تكسباً، الذين استجابوا لإرادة (عبدالله بن عبدالعزيز) حفظه الله، ولجهود رجاله المخلصين في دولته الفتية، بهدف إحياء سوق عكاظ، وبعث سوق عكاظ، والعمل بروح الفريق الواحد مع أمير منطقة مكة المكرمة، الأمير (خالد الفيصل)، عرَّاب هذا المحفل الفكري الثقافي المدهش، حتى يجعلوا من سوق عكاظ، تظاهرة ثقافية متفردة في الوطن العربي كله.
- فكرة عكاظ العبقرية إذن، تتقدم إلى الأمام بعزم وثبات، وكل ما عززنا من إيجابياتها وهي (كثيرة)، وقلصنا من سلبياتها التنظيمية والإدارية وهي (فردية)، وفرنا فرصة أفضل للنجاح والتميز في المستقبل القريب إن شاء الله.