أجد في نفسي الحماس والتطلع الشديد للمزيد من البحث والكتابة عن مؤسس هذه البلاد وموحدها وباني نهضتها الملك عبدالعزيز (طيب الله ثراه وجعل روحه في جنان وريحان)، فقد سبق وتحدثت في مقالات سابقة عنه في مجالات متعددة عبرت بشكل واضح عن شخصيته المتميزة والتي تحتاج لمزيد من التأمل وتقييد العبر والفوائد الجمة عنها في جوانب مختلفة وزوايا متعددة فكرية وقيادية واجتماعية وإسلامية، كونه رحمه الله ذا عقلية فذة تجمع بين التمسك بالثوابت والمثل ومعايشة الواقع ومداراة لصعوباته والعقبات فيه ليتغلب عليها بمكر ودهاء وفق منظومة أخلاقية وتربوية عالية، كما كان ينظر للمستقبل عبر مسبار عبقري نافذ، فيحدد به الوجهة ويخطط عبره للمسيرة ويرسم من خلاله وبدقة خارطة الوصول والبلوغ للهدف المنشود، ويغلف ذلك كله إيمان وثقة بموعود الله الذي يقول: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.. ونحن شعب هذا البلد المعطاء نشهد -ونحن من شهود الله في أرضه- أن الملك عبدالعزيز ممن نصر الله بإقامته العدل والحكم بين الناس بما شرع رب العزة والجلال، وكذلك بما سعى وتعب وكابد من أجل أن يعيش شعبه في رغد مادي ومعنوي وعلى أرض سمتها النهضة والتطور، وإن أهم ما يذكر في باب اهتمامه طيب الله ثراه (بعد توحيد البلاد مباشرة) رحمته وعطفه على الإنسان (المواطن والمقيم) وسرعة نجدته وإغاثته في حال مرضه وساعة نكبته، بل وأسست على هذا الهم وهذا الحس الإنساني الرفيع عند جلالة الملك عبدالعزيز هيئات وجمعيات إسعافية تنقذ الإنسان وتهون عليه مصابه، انتشرت في مدن وقرى المملكة العربية السعودية.
جاء في كتاب «الملك عبدالعزيز والعمل الخيري» للدكتور عمر بن صالح العُمري نقلاً عن الشيخ إبراهيم بن عبيد آل عبدالمحسن في كتابه «تذكرة أولي النهى والعرفان بأيام الله الواحد الديان وذكر حوادث الزمان» جزء 5 صفحة 20، ذكر حادثة بدأت بقيام جلالة الملك عبدالعزيز للتهجد حسب عادته في كثير من الليالي وبينما هو يتوضأ إذا به يستمع إلى صوت أنين صادر من خارج قصر المربع، مقر إقامة جلالته، فسأل -يرحمه الله- عن مصدر ذلك الصوت فقيل له إنه صادر من مسكين خارج سور القصر، أصابه حصر البول فألقى بنفسه يئن من شدة الألم، فحينئذ أمر جلالته الحاجب أن يحمله في سيارة إلى المستشفى وألا يبرح مكانه حتى يعالج، ثم يروي الحاجب ما دار بينه وبين نفسه من معاناة داخلية لصعوبة المهمة آنذاك حيث يقول: «قمت مبادراً أقول في نفسي: إنا لله وإنا إليه راجعون، أذهب به فلعلي لا أدخل الرياض إلا بشدة لأن الأبواب مغلقة أو قد لا تفتح لنا بليل، ثم إذا دخلنا فمن يوقظ الأطباء في هذه الساعة؟ وما عساهم يقومون إلا بالنهار!، ويكمل سرد القصة، ويذكر بأنه حمل الرجل متجهاً صوب المستشفى داخل الرياض ليواجه عدداً من المفاجآت، وكانت أولى المفاجآت حين وجد أن بوابة الرياض «الدروازة» كانت قد فتحت قبل مقدمه، ودخل الرياض دون استئذان، حيث كان أمر جلالته الهاتفي قد سبقه إلى حرسها ليفتحوا الأبواب، ثم كانت المفاجأة الأخرى عند اقترابه من المستشفى حين شاهد أن أنوار المصابيح والكهرباء قد أشعلت، على خلاف المعتاد، وزادت دهشته حين تلقاه بعض العاملين والأطباء في المستشفى وبادروا بعلاج المريض بمجرد وصوله، حيث قام كأنما فك من عقاله، ولكن دهشته توارت حين علم أن جلالته -رحمه الله- لم يكتف بإصدار الأمر إليه بنقل المريض، وإنما باشر بنفسه مهام تسهيل العقبات المتوقعة لمثل تلك الحالة وفي ظل تلك الظروف، وزاد جلالته على كل ذلك أن ظل منتظراً عودة الحاجب من مهمته حيث بادره بالسؤال: ما وضع المريض؟، فرد عليه الحاجب بقوله شفاه الله تعالى، وهنا بدرته العبرة وقال الحمد لله الذي عافاه، وسر لذلك كثيراً. ا. هـ
ففي هذه القصة وهذه الرواية نجد عزيزي القارئ الهم الذي أشرنا له والحس الإنساني والرحمة بالمؤمنين عند جلالة المؤسس رحمه الله والحرص على الشعب وإسعافه ونجدته والخوف عليه من الأمراض والأوبئة وحين يتحقق هذا لا يصاب أيّ فرد من أفراد الشعب بمرض أو موقف صعب شديد إلا ويجد -بإذن الله- من يسعفه ويخفف ألمه ويجبر مصابه، وقد يمارس طيب الله ثراه ذلك بنفسه، فهذا رجل ألقى بنفسه أمام سيارة جلالته يريد أن يرى الملك عبدالعزيز ولم يملك السائق السيارة فحطمت ساق الرجل الهرم وألقته على الأرض، فأوقف الملك سيارته ونزل إلى الأرض منكسف البال، وألقى بنفسه على الشيخ الهرم المصاب يبكي ودموعه تنكب على وجه الشيخ فالتزمه يقول: بسم الله عليك يا بيي (يصغر كلمة أبي كعادة أهل نجد) ثم صاح مبادراً بالأطباء، فضمدوا جرحه وبذلوا وسعهم لعلاجه، ثم نال من كرم المؤسس ما نال.
فهذه أمثلة حية لجلالة المؤسس تبين همه وحسه الإسعافي وحبه لنجدة المصابين وتخفيف آلامهم حين وُجد الطبيب وفتحت العيادات واكتمل تجهيز مستشفى في الرياض.
إن اهتمام عبدالعزيز بالإنسان منطلق من إيمانه بالله وتقواه وخشيته لربه كونه ولي الأمر والمسئول الأول عن الرعية، لذا فإنه حين رُفع إليه اقتراح من ابنه فيصل رحمه الله عندما كان نائباً له في الحجاز يعرض فيه فكرة إنشاء جمعية للإسعاف الخيري تعمل على الاهتمام بالحاج والمعتمر وتقديم الإسعافات الأولية والخدمات الصحية العاجلة وتنقل من يحتاج للمستشفى، وقد كان مستشفى أجياد الوحيد في مكة المكرمة آنذاك، لم يتردد طيب الله ثراه بل أصدر أمرَه السامي الكريم رقم 3306 بتاريخ 2-3-1354 الموافق لعام 1935 م بتشكيل «جمعية الإسعاف الخيري» في المملكة العربية السعودية، وامتداداً لشهامته العربية وأخلاقه الإسلامية جعل من نفسه رئيس شرف للجمعية ليزداد نصرة لله بعمل الخير، وإسهاماً منه في تشجيع غيره من أبنائه وأفراد الشعب على هذا العمل الخيري الرفيع، واصلتْ جمعيةُ الإسعاف الخيري هذه خدماتها، وعظمت مسيرتها عبر نشاطات حققت الأهداف وأدت واجبها في إعانة المنكوبين وتخفيف آلام المصابين من الأهالي والوافدين مع شح الموارد وضعف الإمكانات، ولكن أعضاء الجمعية عملوا على تنمية تلك الموارد وزيادة مدخولاتها المالية.
«وفي عام 1383 هـ انبثقت فكرةُ تطوير جمعية الإسعاف الخيري وتحوير مسمَّاها إلى جمعية الهلال الأحمر السعودي لتعمَّ خدماتُها جميعَ أنحاء المملكة، وتكون حلقةَ اتصال بالمنظَّمات العالمية المماثلة في خدماتها ورسالتها، ويقوم نظامُها على أساس اتفاقيات جنيف والمبادئ التي أقرتها مؤتمراتُ الهلال والصليب الأحمر الدولي حسبما جاء قرارُ إنشائها في المرسوم الملكي رقم 1 في 16-1-1383 هـ وبعد أن تمخَّضتْ الجهود عن صدور المرسوم الملكي الكريم الذي حَمَل توقيعَ صاحب السموِّ الملكي الأمير فيصل بن عبدالعزيز آل سعود نائب جلالة الملك وأن تُتَّخذَ جمعيةُ الإسعاف الخيري نواةً لجمعية الهلال الأحمر السعودي، وصدر قرار مجلس الوزراء رقم (371) وتاريخ 24-12-1429هـ بتغيير مسمى جمعية الهلال الأحمر ليصبح هيئة الهلال الأحمر، ويكون بذلك خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز هو الرئيس الشرفي لهيئة الهلال الأحمر السعودي». (المصدر موقع الهيئة).
ولم يقتصر العمل الإغاثي الذي رعاه جلالة الملك المؤسس وزرع بذرته الأولى على الداخل فقط بل توجه به صوب العالم وجعل المملكة رائدة في هذا بدءاً من القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني ومناصرته مادياً ومعنوياً ومناصرة قضيته إلى الاهتمام باللاجئين ومساعدتهم وإيوائهم والعمل على تخفيف مصابهم، حتى وصل الحال بهذه الدولة أن أصبحت قبلة يتطلع لها كل منكوب وينتظر نجدتها كل مصاب، وما أمر خادم الحرمين الشريفين بإنشاء مؤسسة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود العالمية للأعمال الإنسانية والخيرية إلا نقلة نوعية في مجال العمل الخيري وتطوير للمجال الإغاثي ورغبة جادة في بناء نماذج تحتذى لمن أراد الخدمات الإنسانية النبيلة، بل إنها كتاب مفتوح لإبراز مجال التكافل الاجتماعي وتوزيع المساعدات وفق معايير علمية مدروسة، بأسلوب مؤسسي في الإدارة وأساليب العطاء والبذل، كما أن إنشاء هذه المؤسسة ضمان -بإذن الله- لاستمرار أفعال الخير من خلال موارد ثابتة مع إعطاء الفرصة لمن يبذل ويتصدق، حين يعلم أن الأموال في كنف مؤسسة عالمية يثق فيها العالم بثقتها في بلد الإسلام بلد الخير والعطاء بقيادة ملك الإنسانية حفظه الله خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين وسمو النائب الثاني رعاهما الله.
(*) ثرمداءSDOKHAIL@GMAIL.COM