حين أُلقي محاضرة أو أُشارك في ورشة حول الفنون المعاصرة لجمهور (غير سعودي) يبدأ سيل من الأسئلة، مردها في الغالب اختلاف الثقافة، البعض منها أجدني أجيب عنها قبل المحاضرة ذاتها في بعض الأحيان رغماً عني، وتزداد التساؤلات حين أعرض مستنسخات لبعض الأعمال؛ فأتخيل نفسي حينها كمن يقوم بفتح نوافذ مختلفة ومتنوعة على ثقافتنا المحلية لجمهور متعطش لمعرفة خبايا هذه المنطقة.
في مركز الدراسات الشرقية الحديثة في برلين، حيث حاضرت عن الاعتبارات الاجتماعية في أعمال الفنانة التشكيلية السعودية، كان الجمهور من المهتمين والباحثين في مجالات مرتبطة بمنطقة الشرق الأوسط، ومنهم بطبيعة الحال البروفيسورة اولريكه فرايتاغ رئيسة المركز وصاحبة الدعوة لإلقاء المحاضرة. هذا الحضور على الرغم من محدوديته عدداً، ألا أنه كان متابعاً باهتمام مجموعة الصور التي قمت بعرضها مع التعليقات المصاحبة للعرض، وربما لم يكن الهدف فنياً بل أنا متأكدة أنه لم يكن كذلك، ولكن كون الفن وسيلة لدراسة العديد من الجوانب الفكرية والاجتماعية والسياسية والدينية لأي ثقافة، مثلما يفعل الآثاريون حين يقومون بتحليل القطع الأثرية الفنية لمعرفة تاريخ وثقافة المجتمع الذي أنتج هذه الفنون.
وإنْ دلَّ هذا على شيء فهو يؤكد أهمية الفنون لدراسة الثقافات، فإذا كان الغرب مهتماً بفنوننا المعاصرة لدراسة تاريخنا الحديث أليس من الأولى أن نقوم نحن بذلك؟ فبينما نقوم نحن بوصفنا مؤرخي فن بدراسة العوامل التي أدت إلى ظهور هذا الفن أليس مهماً أيضاً أن يقوم دارسو التاريخ السياسي والاجتماعي أو علم النفس وعلم الاجتماع بدراسة الفنون بوصفها مصدراً حيوياً وبصرياً للعديد من التغيرات في العصر الحديث للمملكة العربية السعودية؟ فهي وسيلة من وجهة نظري أفضل من الصور الضوئية؛ لأنها لا تنقل لنا الشكل الظاهر للحضارة أو المجتمع أو التغيرات الشكلية فحسب، وإنما تنقل لنا ما يدور حولها وما يشكلها من تغيرات فكرية؛ حيث غالباً ما يقوم الفنان بتضمين مفاهيم وفكر موجَّه في أعماله الفنية بقصد أو بدون قصد في بعض الأحيان؛ ما يجعل العمل الفني نموذجاً جيداً لدراسة الإنسان ومخرجاته التعبيرية ما كان منها مقصوداً وما كان منها ناشزاً من غير قصد!
15 سنة منذ تخرجت من الجامعة في هذا التخصص (الفنون التشكيلية) وكل يوم أزداد إيماناً بأهمية هذا المجال، لا على ذاتي وطبيعة عملي فحسب، بل على المجتمع والتعليم والكثير الكثير من الجوانب، وما عرضته اليوم دليل آخر على ذلك.