Al Jazirah NewsPaper Thursday  16/09/2010 G Issue 13867
الخميس 07 شوال 1431   العدد  13867
 
قانون «يانتا» الاسكندنافي
محمد الحاج صالح

 

عادت ابنتي من المدرسة باكيةً وأغلقتْ عليها غرفتها. نظرنا في وجوه بعضنا البعض، واشتعلت في رؤوسنا الأفكار. فنحن مهاجرون جدد، وللهجرة ضريبة ثقيلة. بعد إلحاح ووقوف بالباب فتحت لنا، ولمّا سألناها عن الأمر؛ تناولت حقيبتها وأخرجت بحركاتٍ عصبية كتاباً مدرسياً، ثم أشارت على صفحة فيه. وبين دموعها وشهقاتها كانتْ تقول:

- لازم نرجع إلى بلدنا «الرقة»... اليوم اليوم.

شرعنا جميعاً بالقراءة

قانون «يانتا»

لا تعتقد أنك شيء

لا تفكر أنك مساوٍ لنا بشيء

لا تفكر أنك أذكى أو أشطر منّا

لا تتصور أنك أحسن منّا

لا تتصور أنك تعرف أكثر منّا

لا تتصور أنك أكبر بشيء منّا

لا تتصور أنك تليق بشيء أكثر منّا

لا تتصور أنك تقدر على أن تضحك علينا

لا تفكر أن أحداً منّا يهتمّ بك

لا تتصور أبداً أن لديك شيئاً نتعلمه منك

صدمةٌ. ووجوم. نقرأ وننظر إلى بعضنا البعض ونتساعد في فهم الجمل.. صدمة... لأننا نعلم مما قرأنا عن البلدان الاسكندنافية قبل أن نأتي، ومما تعلمناه هنا بأن الناس في هذه البلاد يعبدون القانون. القانون عندهم الأعزّ والأقوى والأجدر بالإتباع مقارنةً بأي شيء آخر. وهاهو مكتوبٌ هنا كلمة «قانون» بحروف كبيرة. أما النص تحت كلمة قانون، فهو نص عدائيّ يُشعر كل واحد منّا أنه المقصود تحديداً. فهو يعتمد على ضمير المخاطَب كفردٍ «أنت»، وضمير الجمع «نحن» المخاطِبين. هذه ال»نحن» المُرعِبة وتلك ال»أنت» المَرعُوبة لها صدى في نفوس المهاجرين، وأي صدى! تلقائياً اشتغلت الآلة النفسية. هاهم النرويجيون جَمْعاً يخاطبوننا ويشيرون إلينا واحداً واحداً بإصبع مُهدّدة عبر هذا القانون. ابقَ خارجاً أيها الأجنبي الذي لا يساوي شيئاً! صورةٌ مشهديّة مخيفة. صورةٌ تجعل الواحد يحسّ بالانسحاق وبأنّه صغير وتافه وعاجز ومُحتقر.

لكن مهلاً.. لِمَ لا نقرأ ما يتعلّق بهذا القانون. شرع أفراد العائلة بالبحث في الإنترنت والقواميس. أما أنا فقلبْتُ صفحةَ الكتاب المدرسيّ وبدأت أقرأ.

شيئاً فشيئاً، كلمة من هنا وكلمة من هناك اتضحت الصورة. فهذا القانون ليس قانوناً. هو نتاج عقل الكاتب الروائي الدانمركي «آكسل ساندموسا» Aksel Sandmose. وهذا القانون «النصّ» جاء في روايته «اللاجئ الذي يقطع إثره» En flyktning krysser sitt spor والمنشورة في عام 1933. هذا القانون هو أفكار سكان بلدة «يانتا» المُفترضة من قبل الكاتب والواقعة في السويد. تتلخّص فكرة الرواية في أنّ الجمع الذي هو «نحن» سكّان بلدة «يانتا» لا نقبل أحداً غريباً بيننا، ولدينا من الوسائل ما يجعله مُستلباً مَنبوذاً ومحتقراً. والكتاب المدرسيّ النرويجي يتناول هذا «القانون!» من زاوية إدانته وليس تمجيده.

عندها هدأنا بعد توتّر. خمدت النار في صدورنا ورحنا نتبادل الابتسامات كما لو أننا ندين تصوّرنا الأوّلي الذي شدهنا وأرعبنا. لكن ثمة جمرة بقيتْ تَنِسّ. ومع مرور السنين اكتشفنا أننا لم نكن مخطئين تمام الخطأ، وأن الجمرة التي ظلت تعسّ في نفوسنا هي الحدسُ الغامض الذي أنذرنا باكراً.

صحيحٌ أن قانون «يانتا» ليس بقانونٍ صادر عن سلطة تشريعية، وإنما هو «قانون» صدر عن أعماق نفسيّة ووجدانية لكاتب. لكن صحيح أيضاً أن كثراً هم الذين يؤمنون ويتبنّون ويمارسون هذا «القانون» هنا. كثيرون يحفظونه ويعملون به بسريّة وصمت مثيرين للغضب والخوف بآن. قانون «يانتا» أقوى «قانون» غير معترف به رسمياً في اسكندنافيا لأن من يتّبعونه وإن لم يكونوا أكثرية عددية، فإنهم دود الخل الذي ينخر في هذه البلاد الجميلة والمتقدّمة. إنه تلك الروح المُتغطرسة والمتعجرفة لما يزيد ربّما عن الثلاثين بالمائة من السكان.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد