Al Jazirah NewsPaper Thursday  26/08/2010 G Issue 13846
الخميس 16 رمضان 1431   العدد  13846
 

العظماء لا يموتون عندما يموتون !؟.
د: أحمد عبدالملك

 

أخيراً ترجّلَ فارسُ الكلمة، وعميدُ الدبلوماسية، ومفتي الإدارة، ورائدُ التجديد في بلاده. نعم ترجّلَ الإنسان غازي القصيبي بعد رحلة طويلة مع الكلمة والحساد والأصدقاء ومدن الترحال، وهدأت الزوابعُ التي أُثيرت حوله! رحل عنا غازي القصيبي العملاق! الذي لن تخلدهُ المناصب أو الوزارات أو الأوسمة، قدرَ ما سوف تُخلدهُ الكتب التي تركها لنا..

والتي ستكون زاداً للباحثين والمنشغلين بالهمِّ الثقافي والإبداعي. تلك الكتب التي حملت رائحة التغيّر - رغم تواجده دوماً ضمن دائرة القرار الرسمي - وعبّرَ خلالها عن رؤيته الثاقبة لمستقبل بلاده، مُخاطراً بوجاهة المنصب وحساسيته - الذي يسعى للقصيبي وليس العكس - ليغرسَ أشجارهُ الإصلاحية في لندن وبيروت، وتنشر ظلالها إلى كافة أرجاء المعمورة.

إن العظماء لا تخلدهُم المناصب، ولا الأصول ولا خزائن الأرض! فكم من وزراء رحلوا دون أن يتركوا للعالم شيئاً يذكرهم به!؟ وكم من المبدعين تركوا كنوزاً من المعرفة والفنون والآداب ما زال الناس يتداولونها ويُمعنون في دراستها. تلك هي ثروة المبدع! وعلاماته الفارقة التي لا يمكن أن يؤسسها قرار رسمي أو فرمان سلطاني.

تركَ القصيبي أكثر من 60 كتاباً في فنون القول: من شعر، وإدارة، وقصة، ورواية احتوت على رسائل قومية ووطنية وإنسانية.

القصيبي كان جامعة متنقلة! فهو إن كتبَ عن السياسية أو الإدارة، لا ينسى معاصرةَ الأدب العربي كافة. وإن خاطبَ الملوك؛ فإنه يجالس الأدباء والمفكرين والمظلومين. وإن كتبَ عن الماضي والذكريات، قدّم رؤى جديدة للمستقبل. كما لم يفته الالتفات إلى واقع المجتمع العربي وقضاياه المعاصرة.

ومن أغرب الإهداءات التي سَطّر بها روايته (7) الآتي:

«إلى الإنسانة التي استطاعت أن تتعايش مع شطحات الشاعر..

وكوابيس الروائي.. ولؤم البيروقراطي».

وفي هذا الإهداء المُختزل نجد معانٍ كبيرة لرؤية القصيبي للحياة وللممارسة اليومية للشخصيات التي يمثلها.

في عام 2007 أصدر ديوان (حديقة الغروب)؛ حيث يلخص في القصيدة الأولى من الديوان حياته في الخامسة والستين، وينقلنا بين سائل ومجيب:

خمسٌ وستون في أجفانِ إعصار

أما سئمتَ ارتحالاً أيها الساري

أما مَللتَ من الأسفار ما هدأت

إلا وألقتكَ في وعثاءِ أسفارِ

أما تعبتَ من الأعداء ما برحوا

يحاورونك بالكبريت والنار؟

والصَحبُ! أين رفاقُ العمر؟ هل بقيتْ

سوى ثٌمالةِ أيامٍ.. وتذكارِ

بلى اكتفيتُ! وأضناني السُّرى! وشكا

قلبي العناء!..ولكن تلك أقداري

تلك قدَرية واضحة في مسيرة القصيبي، وتلك معادلة غير عادلة في التحاور مع الخصوم. ذلك أن الخصوم لا يقارعونك بصوت العقل كما أنت تريد، بل يهرعون إلى النيران والحرائق كي يفنوك عن الدنيا، دون أن يتركوا لك فرصة الدفاع عن نفسك!. خصوصاً إن كان الخصوم يمتلكون القوة؟!.

عُرفَ القصيبي بوفائه لأصدقائه وأهله. وصاغَ فيمن فقدَهم شعراً مؤثراً، مثل: قصيدة (محسون) التي كتبها في رثاء صديقه الدكتور محسون جلال، وقصيدة (حياة) التي رثى فيها شقيقته حياة، وقصيدة (عادل) التي كتبها في أخيه الراحل، وقصيدة (أعز الرجال) في المرحوم يوسف الشيراوي، الذي قال عنه إنه رجل لا يتكرر.. ثم ينشد:

يا أعزَّ الرجال! أمرٌ مطاعٌ

نضبَ الدمعُ.. وارتوى المنديلُ

أَدخلُ الآن، باسماً، عالمَ الذكرى

وأمشي فيه، وأنتَ الدليلُ

ها هنا واحةُ الصداقة.. عشبٌ

وغديرٌ.. ونسمةٌ.. ونخيلُ

وها هنا قاعة الدراسة.. فكرٌ

وعقولٌ تعبُّ منها عقولُ

وهنا خيمة القصيد.. أعدْ لي

« مالنا كلنا جرٍ يارسولُ»

لقد تأثّر القصيبي بما يدور حوله في الإدارات والوزارات أو السلك الدبلوماسي. وطبع كتبه ونشر آراءه حتى وإن خالفت العديد من الآراء أو الأمور الواقعة في بلاده. وكما تغزّل رومانسياً في الحِسان، فإنه كان شعبياً في التقاط الصور الاجتماعية.

كتب القصيبي عام 2003 عن الشاعر (نزار قباني)- الذي توفي عام 1998 -: « لايعرف التاريخ مدى جودة شعر نزار إلا بعد عشرات السنين. حيث يموت الضجيج! ولن يستطيع التاريخ تقييم شعره التقييم النهائي إلا بعد مئات السنين»!

والواقع أن إنتاج القصيبي يحتاج أيضاً إلى مئات السنين من البحث والتقييم والتمعن، كونه لم يقتصر في إبداعه على الشعر، بل هام في مدارات الأدب المختلفة.

كتب القصيبي كتاباً جميلاً بعد وفاة الأميرة (ديانا) في الحادث الأليم باسم (الأسطورة). كما كتب (باي باي لندن) بعد أن قضى فيها سفيراً خُمسَ عمره أو أقل، حيث صدرَ الكتاب عام 2007، وتضمن عدداً من أوراق العمل والمقالات الهامة التي تناولت قضايا التجديد في شؤون الدين والدنيا؛ ناشراً الفكر التحديثي في جل تلك المقالات. كان شبحُ الموت يُساير خطوات القصيبي، ولم يكن ليهرب منه! ففي عام 2004 كتب مقالة في (صحيفة الشرق) الأوسط بعد وفاة صديقه (يوسف الشيراوي) الوزير البحريني. ومما سَطرهُ تذكيرا ببيت شعر كان الاثنان يرددانه.. يقول البيت:

« إذا ما أتى يومٌ يفّرقُ بيننا بموت ٍ؛ فكن أنتَ الذي تتأخر!»

ويجيب الشيراوي:

« بل كن أنت»!

ثم يقول القصيبي:» وشاء الأجل أن تتقدم أنت

وأن أتأخر أنا..

أنا الذي يتجرع كأس الثُكل»!.

وما كان القصيبي يدري أنه لن يتأخر كثيراً! فما بين 2004 و2010 وقت ليس بطويل!.

في رواية (سعادة السفير) يتناول القصيبي حياة السفراء العرب في لندن؛ مقالبهم، اجتماعاتهم، لياليهم! ولكنه يستدرك في بداية الرواية ليقدم لنا قيمة يجهلها الكثيرون. يقول:

« للقارئ أن يصدق أن في هذه الرواية الخيالية شيئاً من الواقع! إلا أنني أنصحه ألا يصدق أي شيء يسمعه من الدبلوماسيين».

وبهذا المعنى، يقترب القصيبي مما يُشاع في الدوائر الدبلوماسية من أن (الدبلوماسية فن الكذب)؟.

كُتبُ القصيبي تظل حية في المكتبة - وليست مثل القرارات الوزارية التي تموت برحيل الوزير من المكتب أو من الدنيا - ولا يمكنك تجاهلها حتى لو أنك قرأتها أكثر من مرة، أمامك:

- بوشلاخ البرمائي

- الجنية

- سعادة السفير

- سلمى

- استراحة الخميس

- حكاية حب

- يا فدى ناظري

- العودة سائحاً إلى كاليفورنيا

- مع ناجي.. ومعها.

- حديقة الغروب

- سحيم

- 7

- ورود على ضفائر سناء

- باي باي لندن

- الأسطورة

- شقة الحرية

وغيرها من النفائس التي ستخلد القصيبي. ويلزمنا وقتٌ طويل لأن نُعيد قراءة هذه الكتب وتلك التي لم تصلنا حتى الآن، بل كتابه الجديد الذي سينشر قريباً عن مرض الزهايمر. حيث سيصدر يتيماً دون وجود الأب!؟

القصيبي أحد العمالقة الذين إن رحلوا لا يرحلون! وإن ماتوا فإنهم يعيشون بيننا! وإن لم يسمعهم صوتُ القرار في حينه، فإن أفكارهم تظل نبراساً لأيام قادمة، وأجيال جديدة لربما تسمع صوتَ الحق.

ولربما تكون من محاسن الصدف أن تسمح وزارة الثقافة والإعلام بالمملكة العربية السعودية بفسح جميع كتب القصيبي قبل رحيله بأيام، ومنحها (حق تقرير المصير فوق كامل ترابها الوطني)!. ولربما كان ذلك تكريماً من السماء لهذا المفكر والشاعر المبدع قبل وفاته.

رحم الله غازي القصيبي وأسكنه فسيح جناته.

www.ahmed-abdulmalik.com

Hamsalkhafi57@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد