Al Jazirah NewsPaper Thursday  26/08/2010 G Issue 13846
الخميس 16 رمضان 1431   العدد  13846
 
أحسن اللهُ عزاءَ ثقافتنا
فيصل أكرم

 

عامان مرّا على رحيل عبدالله الجفري، وأسبوعان مرّا على رحيل غازي القصيبي، فمن لثقافتنا العربية السعودية بعدهما..؟

كانا أهمّ شاهديْن - على عصرنا - ولا ننفكّ نتطلع إليهما، وكان المبدع منا يفرح ويتباهى ويفتخر عندما يلفت نظر أحدهما بشيء من إبداعه فيحظى بكتابة (أو شهادة) أحدهما.. ولعلي كنتُ أكثر حظاً من غيري إذ كثيراً ما تباهيت - وسأظل أتباهى وأفتخر - بكتابة هذين الكبيرين عن شعري..

والله لا أبالغ عندما أقول: لم أتأكد من مقدرتي على الكتابة الشعرية إلا عندما كتب هذان القديران عن تجربتي.. وكان ذلك في عامٍ واحدٍ (1997) فشكّل لي دعمهما الأدبيّ أرقى شهادتين اتكأتُ عليهما في مسيرة حياتي كلها، حتى أنني لم أعد أملك شيئاً يساوي امتلاكي للثقة بما أكتب..

كلّ شيء من حولي يقول إن الآن وقت الحديث عن رجل واحد، هو سيّد الكلمات والإنجازات (غازي القصيبي) ولكن.. هي طبيعتي الأزلية، أنّ كلَّ حدثٍ جللٍ إن لم يذكّرني بمثيله فسألتزمُ الصمتَ - لأن شيئاً يوحي لي بحدثٍ آتٍ يشابهه.. وحين يحلّ يكون الوجعُ مزدوجاً ومضاعفاً. هكذا كان حالي حين وفاة والدتي وأنا في سنّ الطفولة، لم أقل شيئاً سوى الصمت حتى لحق بها والدي (رحمة الله عليهما) فانفجرتُ بكاءً وكتابةً حتى صرتُ شاعراً مغموساً بحزن الفقدان..

الآن، ومع وفاة غازي القصيبي، تذكّرت عبدالله الجفري الذي تجمّدت حروفي حين وفاته فلم أكتب شيئاً في رثائه، مع أني كنتُ احتفيتُ به في آخر أيامه عبر موقعي الإلكترونيّ آنذاك (نصف الكتابة) سارداً بداية علاقتي بكلمته - منذ طفولتي - وكيف كان وقع المفاجأة عليّ حين رأيته يستشهد بقصائدي في مقالاته.. فردّ على احتفائي بكلمة رقيقة ومؤثرة وصلتني منه عبر (إيميل الموقع) فضاعت مع ضياع ذلك الموقع بسبب القرصنة والإرهاب الإلكترونيّ؛ والشيء نفسه تكرر مع الدكتور غازي القصيبي كآخر مخاطبة مكتوبة حظيتُ بها منه.. إذ أرسلتُ له نسخة من ديواني الأخير (شربنا من الكون حتى العدم) فردّ على إهدائي برسالة رائعة ومطوّلة يطالبني فيها بإكمال السيرة الذاتية (سيف بن أعطى) - وأذهلني بتذكّره لتفاصيل كتابٍ مضى على صدوره زمنٌ! - فكان أن احتفظتُ بالرسالة في (درج سيارتي) ولم أدر أن اللصوص كانوا على موعد لسرقة السيارة بكلّ ما فيها، فضاعت الرسالة التي هي أغلى من كلّ السيارات..!

هكذا هي الدنيا، مواقف تتشابه وأحداث نصطدم بها فنتذكّر أحداثاً مثلها، إنه الكون العجيب في تراكيبه وتداخلاته ولا شيء يشبهه إلا حالنا معه..

في اليوم الأول من عيد الفطر - قبل الماضي - توفي الأستاذ عبدالله الجفري، وفي اليوم الخامس من رمضان - الجاري - توفي الدكتور غازي القصيبي، ونحن الآن في منتصف رمضان ومقبلين على عيد الفطر.. أي أننا نعيش ذكرى مرور أسبوعين على وفاة القصيبي، وذكرى مرور عامين على وفاة الجفري (رحمة الله عليهما) فهكذا تختلط في أعمارنا المواقيتُ فلم نعد ندرك الفرق بين الأسبوع والعام..

هي الثقافة إذا فقدت أهمّ وأكبر قامتين فيها، فهل ثقافتنا ضعيفة بعدهما..؟؟

أقولُ بملء الفم: لا.. فالثقافة التي كرّس الجفري حياته لها، والثقافة التي حقق لها القصيبي ما لم يتحقق لغيرها من الثقافات.. إنما هي ثقافة قوية واستثنائية وعملاقة، ولن نستحق أن نكون ضمن المحسوبين عليها إن تركناها تتهاوى بعد كلّ الخطوات الشاسعة التي قطعتها تقدّماً مع الراحلين العظيمين..

نعم، نعم.. نحن نعيش في مرحلة ثقافية قوية واستثنائية وعملاقة، هي الآن فقط في حالة (عزاء) لفقدها أشهر كبيرين فيها (أو أكبر شهيرين).. وهذه الدموع في أعيننا شاهدة على عظمة من أعطياها ما يكفيها لتكون في (القمّة) التي يحسدنا عليها الآخرون..

فقط نقول لثقافتنا: (أحسن الله عزاءك وعزاءنا) ونواصل ما استطعنا أن نواصل.. ولتكن أعمال ومنجزات (غازي القصيبي) و(عبد الله الجفري) حاضرة أمام أعيننا كأعلى مثلين ثقافيين على طول الزمان وعرض المكان، وليس فقط في منتصف عشر الرحمة من كلّ رمضان وأول أيام كلّ عيدٍ للفطر..

(دمعتان):

لا أجد للسان حالنا أصدقَ من مرثية المبدع الراحل غازي القصيبي في صديقه المبدع الراحل عبدالله الجفري، إذْ يقول له في ختامها:

(من نعزّي فيكَ؟ أسفارَ الهوى

أم شذى الكلمةِ.. أم أبهى سنينْ؟؟

زَمَني بالموتِ يسخو، ما لَهُ

بمواعيدِ الأحباءِ ضنينْ..؟!)

رحم الله من نحبهم جميعاً، ورحم حالنا من بعدهم..



ffnff69@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد