Al Jazirah NewsPaper Thursday  26/08/2010 G Issue 13846
الخميس 16 رمضان 1431   العدد  13846
 
غازي القصيبي والبحرين!
د. إبراهيم عباس نتّو *

 

ألَمَّت بالمرحوم الدكتور غازي عبد الرحمن القصيبي وعكة سرطانية معوية بُعيد حلول عيد ميلاده السبعين الميلادي. (ولد في الأحساء، المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، في يوم السبت، 2 من مارس 1940م؛ الموافق 22 من المحرم 1359هـ؛ ثم نشأ وترعرع في البحرين.)

كان د. غازي قد أتمّ دراسته إلى نهايات المرحلة الثانوية في مدارس البحرين.. ثم سافر إلى مصر للمرحلة الجامعية الأولى، وكان معه عدد من أبناء البحرين، كان منهم: الشاعر عبد الرحمن رفيع، ورجل الأعمال محمد كانو، والقاضي محمد صالح الشيخ.

أُشيرَ إلى هؤلاء الأربعة ببعض بنان عند صدور أول رواية للدكتور غازي، شقة الحرية، بأنهم ربما كانوا المقصودين برفاق «فؤاد»، الشخصية الأساسية في الرواية. لكني سمعتُ كلاً من الأربعة وهو لا يقرّ بذلك؛ أما د. غازي نفسه، فكان يشير إلى كون الكتاب «رواية»، وأن شخصياتها الأساسية الأربعة قد تنطبق على أي من رفاق الدراسة في القاهرة حينئذ، أو كل من رفاق الدراسة الأربعة أولئك.. (الذين بالفعل تشاركوا معه في سكناهم في شقة في الدُّقي في حي العََتَبة خلال دراستهم الجامعية في القاهرة). لكنني لاحظتُ أن كلاً من الأربعة لم يؤكد.. ولم يدحض.

لقد لاحظت في البحرين أن كانت هناك محبة غادقة للدكتور غازي وحظوة في مختلف طبقات وفئات البحرينيين والبحرينيات. كما كان قد عدّ ضمن الشعراء «البحرينيين» في معظم المواقف، وخاصة في كتاب أعده د. هاشم العلوي، بعنوان: شعراء البحرين المعاصرون، فضم الكِتابُ 24 شاعراً «بحرينيا»، جاء د. غازي في أوائلهم.. بُعيدَ الشاعر إبراهيم العِريِّض ومن كان في سِنه.

كما لاحظتُ حظوة خاصة ومحبة عند أمير البحرين ولدى عموم شيوخها.. مثلما بين أدبائها وأعيانها وعموم مواطنيها. ذات مرة، رأيت المرحوم الشيخ عيسى بن سلمان (والد الشيخ حمد، ملك البحرين الحالي).. وهو يعود د. غازي أثناء وعكة ألمّت به في 1985م، وقام شخصياً بزيارته في مستشفى البحرين الدولي.. قرب مسكن معاليه حينها، في منطقة المقشاع، على طريق البُديّع. كما كان ملاحظاً ملاقاة الشيخ عيسى له ببشاشة وحفاوة، أكثر من البشاشة المعهودة منه أصلاً للجميع.

وكان مما لاحظتُ، عبر السنين، اهتمام د. غازي الدائب الدائم بالبحرين وشؤونها ومتطلبات التنمية فيها بعامة وبصفة متواصلة. فكان هناك الكثير مما شاهدته واستنبطته من وثيق صلة د. غازي وحميم متابعته للتنمية والبناء في البحرين حتى وهو بعيد عنها في مختلف المناصب التي تقلدها.. في الرياض أو خارجها.

وكان شريكه المباشر في تنسيق وتنفيذ المشاريع البحرينية المرحوم المهندس يوسف أحمد الشيراوي -الوزير السابق للتنمية والصناعة في البحرين-. فلقد كان الأخير دائب التواصل مع الدولة السعودية بواسطة د. غازي وعلاقاته الشخصية معه.. أو بحكم عضوية كل منهما في مجلس وزراء بلده.. أو مع تشابه التخصص الإداري بينهما أحياناً ايضاً، مثلما حين كان القصيبي وزيرا للصناعة وللكهرباء حينما كان الشيراوي وزيراً للصناعة والتنمية.

ولكن أوجه التعاون والمشاركة السعودية في مشاريع البحرين لم تقتصر على باب أو ناحية معينة. بل أحسستُ وكأنّ المملكة كانت تنظر إلى البحرين، وفيما وراء دور د. غازي، وكأنها قطعة من جسدها وتضعها قريبة إلى قلبها. فمن بين مختلف المنشئات الكبيرة العامة فيها.. وفيما وراء مشروع الجسر الذي كلّف -وقتها- ملياراً ونيَف من الدولارات مَوّلتها المملكة. وكانت شركة «البلاد» السعودية المقاول الرئيس للمشروع، الذي نفذته شركة (بالاست- نيدام الهولندية).

ولقد فهمت أثناء إقامتي في البحرين (التي بدأت بإعارتي من جامعة البترول إلى عضوية هيئة التدريس في جامعة البحرين، ثم مَدّدتها -أنا- فأقمتُ بعد ذلك لمدة عقدين وسنتين وشهرين ويومين!!)؛ أقول لاحظتُ أن مشروع الجسر كانت له جذور قديمة، منذ أيام الملك فيصل، حينما قدِمَ سمو الشيخ خليفة بن سلمان -رئيس وزراء البحرين- للقاء جلالته في 1969م.

وكان وما زال هناك عدد من مشاريع التنمية والبناء التي ساهمت وتساهم فيها المملكة في البحرين، فكان من ذلك إنشاء الإستاد الوطني (توأم إستاد مكة المكرمة الرياضي)، والمركز الطبي بمشفى السليمانية الملاصق لكلية الطب في منطقة المنامة، وغيرهما. وذلك إضافة إلى تسيير رواتب عدد كبير من الممرضين والممرضات المتعاقدين في المشفيات، وعدد كبير من المدرسين والمدرسات المتعاقدين في وزارة التربية والتعليم، كانت معاشاتهم تصرف من مكتب الملحق الثقافي في السفارة السعودية، قبل وأثناء وبعد فترة خدمة د. غازي سفيراً في البحرين. فلم أستغرب مطلقاً أن قام الملك عبد الله منذ شهور قليلة خلت بتقديم حوالي المليار لبناء مجمع طبي ونحوه في مملكة البحرين.

والذي فهمته أيضا خلال إقامتي في البحرين ومن خلال قراءاتي، أن السعودية قامت وتقوم بهذه المساهمات.. ليس فقط من باب حسن الجوار، أو لتواشج أواصر الصلات الممتازة والمتميزة بين البلدين، ولا فقط حماية للبحرين من الضغوط الخارجية.. ولصون استقلالها (منذ استفتاء الأمم المتحدة لشعب البحرين حيال رأيهم إما الانضمام إلى إيران كما كانت الأخيرة تطالب.. أو الاستقلال؛ وقد صَوّت شعب البحرين في1965م لصالح الاستقلال)؛ ولا فقط لعضوية البحرين في مجلس التعاون الذي أنشئ في 1981م؛..

بل أيضا لسبب آخر سابق هو دور البحرين في تأسيس الدولة السعودية الثالثة وإنشاء المملكة العربية السعودية أثناء قدوم المرحوم الملك عبد العزيز بن سعود إلى شيخ البحرين قبيل مطلع القرن العشرين وحصوله على دعمَيه الأدبي والمادي.. في سيرورة محاولاته لاسترجاع الرياض من ابن الرشيد.

من جملة نقاط القوى المميزة للدكتور غازي أنه جاء من بيت ثراء وأيدٍ بيضاء؛ فلم يكن حتى يظن به أي مظنة مادية وراء أي من المناصب والمراكز الحساسة التي تقلدها؛ بل خدم وطنه كإداري مسؤول لا يحتاج هو إلى الوظيفة بل هي تحتاجه؛ ولا يحتاج إلى المردود المالي لمركزه الإداري.. بل المركز تحتاجه ويدر مردوداً مادياً بسببه.

و هو ابن التاجر الذي كان من كبار أثرياء عصره. فلقد كان والده، عبد الرحمن القصيبي، وهو الأحسائي المنشأ.. أول رئيس للغرفة التجارية في البحرين. ولم يتردد في مؤازرة ودعم المملكة في فترة من فتراتها التأسيسية أو العصيبة.

ولقد تمت تسمية والده من قبل المملكة، في خمسينات القرن العشرين، بمسمى «وزير دولة»، وبلقب «معالي». وكانت تلك التسمية وذلك اللقب، فيما أعلم، فقط له ولثلاثة آخرين من المواطنين الذي أسهموا مثله في خدمة ودعم الدولة/ الوطن. (و كان من الأربعة: «معالي» حسن عباس شربتلي، و»معالي» عبد الله بن عدوان). وللأسف، لا أذكر الآن (الشخصية الوطنية الرابعة). كان تشريف أولئك الأربعة، بتلك الصفة، هو الأول من نوعه، وفيما أعلم.. الأخير.

من مواقف نبل المرحوم د. غازي، الحادثة الشهيرة التي وقعت في أواسط سبعينات القرن الماضي/العشرين. كانت حدثاً فريداً، حينما عرضت شركة كورية في قطاع الكهرباء مبلغاً من المال جاوز الثلاثة ملايين (وكان مبلغاً ضخماً وقتها) رشوة للمرحوم معالي المهندس محمود خليل طيبة، المسؤول وقتها عن المؤسسة العامة للكهرباء.. ذات التبعية لوزارة الصناعة والكهرباء ووزيرها د. غازي؛ فما كان من المهندس/طيبة، وهو صاحب زهد عميق، إلا أن أخبر د. غازي فوراً. وما كان من الأخير إلا أن شجع المهندس طيبة على «قبول» المبلغ! وعلى ترتيب موعد ولقاء مع الكوريين في مكتب المهندس لتلقي المبلغ. وحينما أتى مندوبو الشركة حاملين شنطة سامسونايت فيها المبلغ نقداً، ومع بدء «الاجتماع»، اكتشفوا ما كان مُعداً لهم: ثلة من أفراد الجهات الأمنية؛ ووقعوا في المصيدة!

فهل من الكثير أو من المبالغة حينما قمتُ بعنونة قصيدة من قصائدي في د. غازي.. بعنوان: من مثلِ غازي..هاتِ يا أيامي! (القصيدة مشمولة في هذا المقال).

لقد سعدتُ بمعرفة المرحوم د. غازي منذ 1973م في الرياض حين كان أطفال كلٍ منا في مدارس الرياض الأهلية. ثم دام تواصلنا، على الأقل أسبوعياً، بما في ذلك في ديوانيته في السفارة السعودية في البحرين بعيد تعيينه سفيراً هناك (بعد ربيع ساخن في الرياض في 1984م).

حدث أن شرعتُ في نظم الأبيات مع بدايات فترة د. غازي.. في دولة البحرين. فطفقت آتي بين ثلاثاء وآخر من فترة لأخرى ببعض الأبيات في قصائد غير مطولة كانت تتفاعل مع الأحداث مثل استشهاد «عروس الجنوب» (سناء يوسف محيدلي)، كردٍ على غزو لبنان؛ ثم مناسبات اجتماعية في الديوانية؛ وبعض الأقوال الغزلية؛ أو ما كان في أبواب النصيحة؛ ثم عن حدث العصر المتمثل في غزو الكويت (الذي انبرى له د. غازي إعلامياً بالكاع والذراع)؛ وكذلك عدد من القصائد في مختلف الموضوعات كان فيها للرومانسية نصيب.

و لقد شجعني وقتها د. غازي حتى أنه، لكرم لطفه، كان يطلب «الإعادة» (ولو أنه كان يريد استيعاب البيت المعين.. ليساهم في»تجبيره»!) بل بلغ فضلُه أن طلب من وقت لآخر قراءة قصيدة كنت قد كتبتها في وقت سابق، وكان-ما ألطفه- يقول «أنا راوية الدكتور نتو»! وتجمَّعت عَبر السنين عشرات من القصائد.. كنت أدوّنها وأحملها في دفتر صغير.. دأبنا على تسميته ب»الدويوين»، تصغير الديوان. ثم واصل د. غازي تلطفه بي بعد أن انتقل إلى السفارة في لندن.. فكتب عني مقالاً في المجلة العربية.. ونوَّه بأبياتي التي صدرت في البحرين في شكل ديوان!.. ثم تمادى مؤخراً في تلطفه بي، فنشر المرحوم عني جزءاً في كتابه الأخير.

استمرت ديوانية د. غازي طيلة فترة عمله سفيراً في دولة البحرين لسبع سنوات سمان.. قبل انتقاله سفيراً في لندن لمدة أكثر من عقد من الزمان؛ وكانت الفترتان جزءاً من سيرورة حياته الزاخرة في كلٍ من مجاليْ الدبلوماسية والإدارة.. خدمة لوطنه في الداخل والخارج.

«ديوانيته» كانت ليلة أسبوعية ابتدعها د. غازي منذ تعيينه سفيراً، مساء كل ثلاثاء في مبنى السفارة السعودية في دولة البحرين، ثم شابهه عددٌ من سفرائنا في عدد من السفارات في الخارج. وكان يحرص على الحضور بانتظام، وعلى استضافة عدد من الزوار السعوديين المشاركين في عدد من المؤتمرات والندوات المنعقدة هناك، إضافة إلى استضافة عدد من أدباء البحرين ذاتها.

كانت جلسات الديوانية في مبنى السفارة.. وقام د. غازي بتسمية الطابق الذي كانت الديوانية تعقد فيه بمسمى النادي، فكان من المرتادين منسوبو السفارة، سواء منهم العاملون في مبنى السفارة بالذات أم من الملحقيات التابعة لها: العسكرية، والدينية، والثقافية. وكان د. غازي يشجع على روح التسلية والحبور مع تناول القهوة والشاي كل ثلاثاء في المساء.. وكل ليلة خلال رمضان. ومع تقديم العشاء كلما يستضاف ضيف.

* عميدسابق في جامعة البترول.. السعودية


 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد