من بين دول العالم في شنغهاي، يشمخ جناح بلادي زاهيا مفاخرا الأوطان والشعوب ومناديا لها أن هلموا فأقبلوا فتعرفوا على المملكة العربية السعودية لتعلموا سمو عُصبتِها السماوية وعراقة تُراثُها المجيد وطموح آمالها المستقبلية، ولتكحلوا أنظاركم بالحرمين الشريفين ولتستنشقوا عبير المقدسات فتعيشوا روحانيات الصفاء والنقاء فتثرى معارفكم وتعمق ثقافتكم فتحمدوا صبركم على طول انتظاركم لدخول جناح السعودية في معرض أكسبو في شنغهاي في إمبراطورية الصين العظيمة. هكذا حدثتني نفسي ولكنها لم تكن إلا أحلام ابن وطن ساذج تلاشت متحطمة على عرض من عروض ديزني لاند الجميلة. الترف والبذخ -نظرا لأنه مبنى مؤقت- وجودة التلاعب بالأنوار والعروض السينمائية في ذلك الجناح، حدث عنه ولا حرج. (وأعتقد أن الجناح قد كلف ما لا يزيد على عشرة ملايين دولار، والأرقام التي ظهرت في الجرائد لا أعتقد صحتها مطلقا ومبالغ فيها بشكل جنوني). ولكن ما هي الرسالة المطلوب إيصالها لزائر الجناح؟ لم تكن إلا «الثراء والبذخ! وأننا كنا بدو فجاءنا البترول فأصبحنا أغنياء»، هذه هي الرسالة التي طغت على الجناح السعودي.
مبنى الجناح على شكل سفينة يشير إلى اتجاه السعودية. ومن الداخل صور لبعض المدن وعبارات وصور تشير بأننا كنا بدو رحل ثم أصبح عندنا الفيصلية. ثم يأخذك سير متحرك عبر عرض جميل ورائع، صامت عن الكلام ومحسن بالموسيقى فيجعلك وكأنك تعبر الصحراء وتغوص البحار وتحلق فوق حقول البترول ومصانع التكرير ويجول بك في زخارف تشكيلية ثم وفي لحظة أخيره يضعك وسط زحام من الناس لا تعرف الحكمة منه ويستحيل لمن لم يطف في البيت آلاف المرات أن يدرك أنه في وسط الطواف بالبيت العتيق.
زوار الجناح السعودي في شنغهاي كلهم إلا أفراد معدودين هم من الصينيين الذي لا يعلمون أن هناك بلدا يقال لها السعودية، فهم قد يعرفون دبي ولا يعرفون ما يجاورها. فما هي الرسالة التي نطمح لإيصالها لهم. كنا بدو فاغتنينا! ثم ماذا؟ الشعوب لا تحترم الغني ما لم يتحول ثراؤه إلى إنتاجية ورفاهية لقومه وإحسان إلى الناس. لن نفاخر الصين ونؤثر في الصينيين بالفيصلية ولا بمصنع بترول ولا بصحراء وبحر ولا بزحام أناس يمشون في مكان ما ولا بالتحول البطيء من البدو إلى حضارة مقبولة. فعند الصينيين أعظم الناطحات وعجائب المصانع وأشكال متنوعة من الصحاري والبحار وعندهم الكثير من الزحام وهم في خلال عشرين سنة حولوا مزارع الرز إلى أغلى مناطق العالم وأرفعها إنتاجية وأدهشها حضارة وتطورا. بل نحن لن نستطيع أن نتميز عن ما حولنا من دول الخليج بالتقدم وسرعة التحول الحضاري فقد سبقونا بعقود.
القرآن ومكة والمدينة والمشاعر والمقدسات والعصبة السماوية التي التففنا حولها هي ما يميزنا عن العالم وعن من حولنا وهذا ما نفاخر به غيرنا وخاصة جيراننا من دول الخليج، وهذا ما يحتاج أن يعلمه الصينيون الوثنيون منهم والمسلمون. وَا إسْلاماه، كيف ضاعت في جنبات الجناح السعودي في شنغهاي. وَا إسْلاماه رسالة كانت يجب أن تكون مستهدفة في ذلك المعرض فيكون الثراء والترف لباسا لها فيخرج الزائر الصيني بثقافة وطابع لا ينساهما أبدا حياته، ويدفعه للبحث مزيدا عن السعودية احتراما لهذه الثقافة فهي دين ودنيا وذلك ما تبحث عنه الشعوب عامة والصينيون خاصة.
صليت الظهر والعصر على ضفاف نهر «لي» الجميل في قرية من قرى الصين فتجمع علي السكان المحليون وما أن انتهيت حتى تلقاني السكان الوثنيون بالتحية والانحناءات الصينية وهم قد اصطفوا على طريق عودتي إلى الحافلة التي تقلني مع السياح الأجانب، فظفرت من طقوس التبجيل الصينية بما لم يحلم به باقي السياح الأجانب، فكيف غفل منظمو الجناح السعودي في شنغهاي عن إبراز جوهر قيمة الديار السعودية؟ بل لِمَ حرصوا على إخفاء هذا الجانب؟
إن مما سكت عنه أن تسلط الجانب الديني برأي فقهي واحد على المجتمع السعودي في فترة مضت قد خلقت ردة فعل معاكسة عند جيل الشباب القادم، فالإسلام عظيم في قلوب السعوديين كلهم ولكن صورة التسلط الديني التي في أذهانهم جعلتهم يعتقدون أن أي تمثيل ديني سيعكس الصورة التسلطية التي ألفوها، فأخفوا معالم وَا إسْلاماه جملة وتفصيلا.
hamzaalsalem@gmail.com