يعبق الشرق بالسحر والغموض، تسكنه الملائكة والشياطين والأرواح، وتقطن الجان القمامة، ويسكن السحرة والمشعوذون على أبواب تاريخه المنسية، وتعج دهاليزه الخلفية بقصص الحب المحرمة. تضاريسه صحارى ووديان غامضة تصفر فيها الرياح.
قصصه تتقافز منها الفرسان البواسل والأبطال والأساطير.
هذا الجانب الذي يراه العالم من سحر شرقنا، وهذا أكثر ما يلهمهم للتأليف عنه.
لعل أهم مُؤلَّف موسيقي كُتب عن الشرق هو رائعة ريمسكي كورساكوف: شهرزاد، أو التي تُعرف أحياناً ب (ليال عربية)، وهي ذاتها الرواية التي يعرفها العرب باسم (ألف ليلة وليلة).
وتُعد المقطوعة هي أشهر مقطوعة للمؤلف الروسي ريمسكي كورساكوف والتي كتبها عام 1888م.
(وهنا يجدر التنويه على اختلاط الميثولوجيا العربية بالفارسية في أدب ألف ليلة وليلة، فأصل شهرزاد فارسي).
شهرزاد اسم جارية شهريار الملك في حكايات ألف ليلة وليلة الشهيرة، وكانت الجارية الأخيرة في حياة شهريار الذي تعود أن يتزوج عذراء كل ليلة ثم يقتلها لمعاقبة بنات حواء جزاء لخيانة زوجته التي أحبها.
الموسيقى تزخر بالسحر والجمال، وتعد مفترق طريق في تاريخ الموسيقي الكلاسيكية من حيث التلوين الأوركسترالي، وتوزيع الآلات الموسيقية.
يتخلل العمل الموسيقي بين الحين والآخر صوت الكمان يعزف منفرداً لحناً حالماً يتكرر على طول السيمفونية، ويشعر المستمع وكأن اللحن يقول على لسان شهرزاد «كان يا ما كان في قديم الزمان»، وهي الحكاية التي سترويها شهرزاد لتؤجل بها موتها ليلة أخرى.
ويقابل صوت الكمان المنفرد، صوت الأوركسترا تعزف بغضب كالبحر العاصف مثل الغضب الكامن في شهريار.
في سيمفونية شهرزاد سحر وغموض مستوحى من سحر قصص ألف ليلة وليلة.
تتألف المقطوعة من أربعة حركات موسيقية اختار الموسيقي الروسي أن يطلق على كلّ حركة من الحركات الأربع عنوانا وصفيا خاّصا بها.
فالحركة الأولى اسمها البحر وسفينة السندباد.
والحركة الثانية تصوّر حكاية الأمير كالندار الذي يتخفّى في الحكاية بقناع ساحر أو مهرّج.
والحركة الثالثة تصوّر قصّة الحبّ بين الأميرة بدور والأمير قمر الزمان.
والحركة الرابعة تصوّر سلسلة مشاهد تبدأ بالمهرجان في بغداد ثم مشهد البحر فتحطّم السفينة.
لكن كورساكوف بعد ذلك ألغى تلك العناوين الوصفية ليترك للمستمع حرية الخيال.
لكن يبقى هناك قراءة نقدية للنص الموسيقي لمقطوعة شهرزاد، هل هي فعلاً (ليال عربية) كما أرادها كورساكوف؟ هل فعلاً مثلت موسيقاه سندباد وبغداد؟ وهنا أحكم بصفتي باحث في علوم موسيقى الشعوب.
في الحقيقة، إن ما مثلته موسيقى شهرزاد هي موسيقى من فلكلور القوقاز ورقصات أوروبا الشرقية، ولم يستعر كورساكوف من شرقنا العربي إلا حفنة من البخور أضافها إلى موسيقاه، كما فعل أغلب من كتب أو ألف عن عالمنا العربي، غاصوا في الصورة النمطية التي رسمها «الآخر» عن العالم العربي مبتعدين عن الصورة الحقيقية الواقعية التي يستدعي اكتشافها بحثاً حقيقياً في تراثنا ودراسة معمقة لمجتمعاتنا العربية، سواء لتراثنا الأدبي أو الموسيقي أو الأنثروبولوجي.
وهو نفس الفخ الذي وقع فيه المؤلف الموسيقي الفرنسي كاميل سانت سانس حين ألف مقطوعته (شامشون ودليلة) أو مقطوعته للبيانو والأوركسترا (كونشرتو مصرية)، أو حين ألف تشايكوفسكي مقطوعته (رقصة عربية) ضمن باليه كسارة البندق، وحتى حين ألف الموسيقي الفرنسي رافيل شهرزاده من بعد كورساكوف، ومن قبلهم جميعاً موتزارت حين ألف مقطوعته (مسيرة تركية).
وأرشيف الموسيقى الكلاسيكية مليء بالأمثلة المشابهة، وأغلب الأمثلة تثبت أنهم جميعاً ألفوا وفق الصورة النمطية للشرق، دون تحري الواقعية، أو محاولة لفهم معمق لموسيقانا العربية بمقاماتها وأبعادها.
azkarkanawi@hotmail.co.uk