أنا أعتقد أنني فنان متوسط فيما أنتجه لكن العبقرية تكمن في رؤياي».
سلفادور دالي
في خطوة جميلة جداً وملهمة قامت مجلة دبي الثقافية ضمن برنامجها (كتاب دبي الثقافية) بتوزيع ترجمة لمذكرات رائد السيريالية سلفادور دالي . الكتاب الذي يأخذ لمنابع إبداع أصيلة ولبرنويا متشعبة هي من الغرابة والإلحاح أن تأخذ شكلا تطويريا متعمدا يخرجها من حقيقتها لتكون فعلا مفتعلا ينحى ليكون مقززا في كثير من أشكاله السخيفة.. الكثير والكثير من القصص التي يكتبها الفنان بنفسه تدفع باتجاه تقديره كإنسان ومبدع حيناً وفي حين آخر تدفع للنظر إليه كممتهن عتيد لإنسانيته. ذلك أنه جعل وبتعمد من السخرية مادة حيوية للفت الانتباه في الحين الذي يتميز اتجاهه في الحقيقة بكم عظيم من الثقافة الفكرية يرفدها وعي خلاق بحق. يجعل من أغرب ما حدث لشخص كسلفادور اقتناعه بأن صفاقته ما هي إلا لافت مبرر وممتاز لإيصاله إلى العظمة.
سرد سلفادور رأيه بفنانين معاصرين له وآخرين سبقوه في ملاحظات دقيقة ومذهلة تصبغ على مذكراته موقفا فنيا أخاذا تشعب وتشعب ليسرد أفكاره ومنطلقاتها التي هي خلاصة أبسط صدف وأحداث الحياة. إن إدراك فنان بحجم سلفادور من مجموع قصص حياتية لا إعجاز يكتنفها إنما الإبداع قوامها الفني الواضح تجعل من المسوغ التفكير بفنانينا .. بوعيهم بحيواتهم لا بفنهم فقط. في المنطلق الفكري لديهم لحظة تكونه ولحظة تطوره ولحظة تصديره للناس كفعل إنساني قبل أن يتكون من مجموع الأفعال كلاً إبداعياً صافيا.
عن القصة أتحدث, المدركة من قبل وعي الفنان نفسه حدا يجعل وصولها إلى الناس فعلا إبداعيا موازيا للإنتاج الفني. فحين يصنف الفنان رقعة الفن, وحين يحدد بيادق اللعبة, من زاويته الفنية الذاتية جدا, هو لا يختار فقط فضاءه الإنساني إنما يحقق نموذجا ورمزا فنيا .. فلا عظمة في الفن للمختفين. والحقيقة هي أننا كبشر ندهش بالكل الإنساني لا بالأجزاء موزعة في عدد من النتاجات الفنية.
الآن.. هل يستطيع كل فنان بيننا أن يكون واعيا بخياراته الإبداعية وشرارات حضور الخلق في قصته. ولو طلبنا على سبيل المثال من كل فنان أن يكتب مذكراته ترى عن أي قصص البدايات مع الفن سيحكي؟ لا أقصد بالطبع تأثير المدرسة والمعارض المدرسية. ولا عن الأكاديميات وما تدجنه في أذهان الطلبة زرافات زرافات. نتحدث هنا عن الوعي بالشرارات الفكرية..عن كيف تكونت طريقة التفكير وكيف تطورت وأي المحطات النفسية أكثر توجيها لرحلته الإبداعية.
استوقفني حديث عام وغير رسمي لمهدي الجريبي في تجمع بسيط لمجموعة من الفنانين في المعرض المصاحب لأعمال مؤتمر التنافسية.. برأيي هذا الفنان يحقق نموذجاً لا فنا فقط.. كان ببساطة وبحس فكاهي يتحدث عن قصة حدثت له.. حين كان يمشي في طريق جبلي في إحدى الدول خارج المملكة يجر حقيبته التي كانت ثقيلة وتكرس بأمانة لكل أنواع الحياة التي نعيشها حدا دفعه للنظر من طرف الجرف إلى الهاوية مقررا في لحظة إلهام أن ينتهي من ثقل ذاكرته ممثلة في تلك اللحظة بالحقيبة!. وبالفعل, من هناك.. من علو شاهق دحرج الثقل عنه بدحرجتها, متأملاً سقوطاً درامياً مفرحاً جداً وفنياً مدهشاً. بالطبع دون أدنى تفكير بما قد يحتاجه كمسافر وهو موجود في داخلها ربما!.
تلك لحظة لمبدع وتلك قصة تستحق الاستماع إليها كحياة ترفد للفنان كماً من الوعي المميز والمختلف. ومن رأيي فإن هذا النوع من القصص في تراكمه يحقق الوعي وطريقة التفكير.. تلك التي لا يحتاج العالم لمال ليقتنيها.. يكفي أن ينصت لها الإنسان مرة ليتمثلها في ما يحدث معه. لذلك فإن كان للثقافة التي تنطلق من الفنان من معنى فهي تتعلق بمبادئه مذابة في سلوك قد يكون من الغرابة والشذوذ.. إنما يصب في صالح الإنسان وفنه العظيم.