Al Jazirah NewsPaper Thursday  05/08/2010 G Issue 13825
الخميس 24 شعبان 1431   العدد  13825
 
العفو عن الذكرى
فيصل أكرم

 

تكلمتُ في مقالتي السابقة، الخميس الماضي، عن (ضمير الندم والنسيان) وتطرقتُ عرَضاً لاحتمالٍ قد يشي بشيءٍ من نزعات (الانتقام) غير الجميل.. بينما تعمّدتُ تأجيل الحديث عن أجمل خاتمة للندم ومفتاح للنسيان: (العفو).. ذلك لأن العفو أمرٌ يستحقّ حديثاً طويلاً مستقلاً، سأختصره بدايةً بقول الله تعالى: ?إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا? سورة النساء – آية 149

فالعفو إذاً دائماً ما يكون مشفوعاً بالمقدرة، (أو العفو على قدرةٍ) وأرى في ذلك نوعين: أن تكون قادراً على العفو فتعفو، أو أن تكون قادراً على الاقتصاص ممن أساء إليك ولكنك تحسن إليه بأن تعفو عنه.. ولا أحسبُ أن أحداً منا، كبشر، يمتلك القدرة الكاملة على الاقتصاص من أحد.. فالقدرة الكاملة هي ملكٌ لله وحده، وعلى ذلك فحسبنا أن نكون قادرين على العفو فنعفو..

هذا عن (العفو) عامة، أما عن العفو الذي أعنيه هنا.. فهو مشتق من نصٍّ نثريّ – شعريّ قديم (من نصوص: نصف الكتابة) قلتُ في سطر من سطوره عبارةً لا تزال تحضرني كلما انتابني ندمٌ على شيء مضى، فأتذكر بها أنني (عفوتُ عن الذكرى).. فالذكرياتُ المؤلمة تتألم هي أيضاً عندما نقيّدها بالحضور كلما عشنا في حالة مشابهة لها، فهي – في تصوّري – كالعقارب تتألم من وجودها، فالموت الذي تحمله عقربٌ سمّاً يعلو ظهرها طيلة حياتها كفيلٌ بجعلها في حالة ألم مستمر.. أو كما وصفها كمال الدين الدميري في (حياة الحيوان الكبرى) بأنها تتألم بحياتها وترتاح بموتها..!

فإن كان أوّل صدرٍ لبيتٍ شعريّ حفظته الذاكرة عن الذكرى، هو مطلع معلقة امرئ القيس:

(قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ)..

فإن الدلالة فيه لا تختلف عن الدلالات في أحدث القصائد حين تحضر (الذكرى) في ثنايا النص، فهي دائماً ما تأتي مصحوبة أو متبوعة برفيقها (البكاء).. ولا أظنّ أحداً من الشعراء يتصوّر ما أتصوّره: أنّ البكاء (من الذكرى) هو جزءٌ ضئيلٌ من (بكاء الذكرى) نفسها..!

هكذا أقول الآن: (عفواً).. فلقد أوجزتُ هنا كلّ ما أودّ قوله في هذا السياق ضمناً، و.. عفوتُ عن الذكرى.

(توقيع):

لذاكرةٍ مسّها العفوُ

قلتُ: انتهى حزنيَ الآنَ

عفواً..

فقال ليَ الحزنُ: لم أنتهِ..!

فللحزن ميعادهُ في الثواني

وفي كبريات المعاني.. المعاني

وفي دقة القلبِ تحت الضلوعْ

فعفواً مشيتَ، وللعفو عفوٌ،

وعفواً ستحتاج مشياً بعيداً

تقاربُ فيه امتدادَ الرجوعْ

فلا تمسح الآن كلَّ الدموعْ

وأودع سيوفكَ أغمادَها

ولا تنسَ إشهارَ كلِّ الدروعْ

لا تنسَ.. نسيانَ

أنَّ حياةَ الحياةِ: (قِفا نبكياتْ)!



ffnff69@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد