Al Jazirah NewsPaper Thursday  05/08/2010 G Issue 13825
الخميس 24 شعبان 1431   العدد  13825
 
في التعقيب على سعد البواردي:
عندما يكون النّاقد أعجل من الشاعر(3)
أ.د. ظافر بن علي القرني

 

جاءت قراءة ديوان «ثمار الإنهاك» في عدد 125 من المجلّة الثقافيّة الصادرة يوم الاثنين 29-8-1426هـ. وقد بادر النّاقد الكريم بصرف معنى الإنهاك إلى الجسد، قبل أن يقرأ الديوان، لسبب أفهمه، اسمعه يقول: «لإنهاك الجسد ضريبته.. ولإنهاك الفكر حصاده.. الإنهاك محصلة جهد شاق لا تتحمل قدرات الإنسان على احتماله..».

ولو تبصّر لعلم أن المقصود هو إنهاك الأمّة كلّها، كما هو واضح من نصوص الدّيوان الّتي وقف عند أوّلها (مأساة المسجد الإبراهيمي) القائل: «مجبرٌ أيّها العربي أن ترى الشّمس بالليل/ والتّبر من فوّهات الرّمال/ وتهذي إذا غار نبض الحياة/ وإن عاد ولّيت أو صرت مثل الحجر/؛ وعلّق عليه تعليقًا جميلاً. وأتى بعده إلى نصّ: «سؤال فلسطيني»، فقال: «اجتزئ منه زبدته، وادع اللبن للشاربين»:

«أيه يا عاشق الرمل.. ماذا ترى؟/ هل تخلّى مضاهدة الناس..؟ / حتى يخف عن الناس ضهد الموقوت».

وعلّق بقوله: «وددت لو أن شاعرنا استعان بمفردات أقرب منها إلى ذهن القارئ.. أعني مفردة (مضاهدة) ومفردة (الموقوت)». ولا غرابة في التعليق، إذا علمنا أنّ «إيه» أصبحت «أيه»، و»نخلّي» أصبحت «تخلّى»، و»الوقوت» أصبحت «الموقوت». والموقوت وحدها لفظة تجعل الحسّ الشّاعري ينفر من القصيدة كلّها.

ويستمرّ الخلل في نقله: «هل من العدل أن تصلب العدل في عالم / يستوي فيه أن عشت محترماً أو لهوت».

ف»تصلب» هنا لفظة ناشزة إذ هي في القصيدة «تطلب»؛ ولكنّها أتت ملائمة لإنهاك الجسد المتصَوّر أكثر من ملاءمتها لإنهاك الأمّة.

ويعلّق على قصيدة «ماذا يقول الكون»، بتعليق جميل، وينقل أولها:

«خمسون عاماً والدماء تسيل في الأحياء/ في البيداء/ في الأجواء/ في الطرقات/ وفي كل الجهات» فيزيد «واوًا» قبل «في» الأخيرة.

ويُغيّر كلمة كفن في قصيدة «وشم على كفن السلام». إلى كفّ ليستمرّ الرّبط بين الإنهاك والجسد الذي ظنّ الديوان يحوم حوله. ويأخذ من القصيدة أولها:

«يحيى التعنت أعتى من الموت / لو صب في جبل لانصدع»

فتنقلب «يجيء» إلى يحيى. ويحيى هذه كفيلة بهدم القصيدة.

ويأتي إلى المقطع التّالي: «فيصفعنا الخصم شلت يداه / بكف نراه إذا مدها / وننهض من بعد وعثائها /نسائل حولنا (من صفع)؟»

فيراه خطابًا مباشرًا، ويرى القصيدة متداخلة، لا هي بالنثر ولا هي بالشعر.. حلقاتها محتاجة إلى ربط.. وإلى وضوح أكثر رغم (إجماليات) أهدافها».

حوّر عنوان القصيدة، وافتتحها بكلمة ليست منها، وتخفّف من شدّاتها كما في «شلت» و»مدها»، وحذف حرف مَن السابق لكلمة حولنا، فأصبح خارج سياقها؛ فكيف لنا أن نقبل ما جاء به من نتيجة؟. الأولى أن ينقل النّص كما جاء، وأن يكمل قراءته بفهم ليجد ثمرته، ثمّ يحكم عليه بما شاء. أمّا خُتمت القصيدة بالآتي:

وذا دأبنا مذ دهانا السّلام/ ومذ انتهجنا طريق الهوان/ ومذ واهن القول فينا صدع. شغلنا بترتيب هذا الورق/ وصارت قضيتنا في الملفّات تغدو خماصًا وتأتي بطانًا/ شتاتٌ ولكنّها واحدٌ/ كبيرٌ ولكنّه صفحتان/ نسير بأولاهما نحونا / وأخرى تسير إلى المنتجع».

وعن قصيدة السّلام يقول كلامًا جميلاً، ويستشهد بمطلعها:

سلامنا يمشي على أربع / معلومة أسرارها لو نعي

فربعها الأول في قرحة / يمضي لفوز الفارس الألمعي

وربعها الثاني يراد به / لستر وجه الخطة الأبشع

وربعها الثالث يبكي على / ضياع تلك الخطة الموجع

وربعها الرابع مستنفر / لكسب صوت مخلص أو دعي

فتتغيّر كلمة «فرحة» إلى «قرحة» في البيت الثّاني، ليظلّ الديوان متناميًا مع إنهاك الجسد. وتتغيّر كلمة «يُرادي»، في البيت الثّالث، إلى «يراد»، لينفر القارئ من القصيدة وديوانها.

وما أحلى لو أنّ النّاقد ربط بين السّلام وسنوات الرئاسة الأربع التي نعلّق عليها آمالاً جسامًا تضيع بمجرّد دخولنا فيها. أما ترانا نشرع في مدّ أعناقنا متطلّعين لثمار ما بعدها من أربع، لسوء ما جادت به علينا، ولتصوّرنا الواهم أنّ ما بعدها سيكون أفضل منها. والأحلى من ذلك أن يكون ربط بين هذا السّلام، وقول الله تعالى عن بعض خلقه: «ومنهم من يمشي على أربع»؛ لنفهم ماهيّته وكنهه؛ أليس هو في صومعة الفكر؟!

ويقف عند أسطر متفرّقة من قصيدة (محمد الدّرة):

«من رأى الطفل وقد أرهبه الوغد الكريه؟! /من رآه يوم يبكي ويشد اليد والخدّ على صدر أبيه؟!/ يا ترى لو أن حضنك يا أحمد لعبة أخذت شكل رصاصة؟ / ولدى والدك المقهور جعبة / ملؤها زاد القناصة.. / أتراهم يرحلون..»

فيعلّق عليها بكلمات لطيفة؛ لكن يبدو أن حظّ هذه القصيدة ليس بجيّد فقد جاء صفّها مختلاً في ديوان البابطين الصّادر من الكويت، ولحقها هنا ما لحقها من تشويه. فها هو يحذف حرف «في» مِن قبل كلمة «حضنك»، ويكتب «رصاصة» دون «ال» التعريف، ويجعل «يرملون» «يرحلون»؛ فيختل معنى القصيدة اختلالاً كاملاً، إذ الرَّمَل يأتي مع الطّرب والفرح، وهو المقصود؛ والرّحيل يصحبه الذّعر والخوف، وهو ما لم يحدث. لقد اغتال النّاقد هذا المقطع من القصيدة.

ويشتدّ نقده لقصيدة الإغاثة التي ترك، على غير العادة، مطلعها القائل:

«إذا كان العدوّ بكلّ مكرٍ/ رمى من كلّ أربعةٍ ثلاثة»

وينقل منها:

«ألا إن الإغاثة يا رفيقي / لدى من ليس تفريق الحداثة»

ويعلّق بقوله: «حداثة ماذا..؟ لا أدري!»

«عجيب حال أمتنا عجيب / فما من صاغر الا وعاثه

اذا ما طاب جرح في نواح/ شهدنا في نواحينا انبعاثه»

ثمّ يقول: «بين إغاثته وحداثته التي يناؤها (ينالها) الكثير من الخلط إلى درجة فقدان الصورة. الحداثة أخذت حيزها الأكبر.. ما دخل الحداثة في الإغاثة.. لا أفهم..!».

وكما هي العادة، فقد جاءت كلمة «تفريق» بدلاً من «تُغريه» في البيت الأول، فاختل وزنًا ومعنى. وخلا حرف «إلاّ» في البيت الثّاني من الضبط الّذي يعين على قراءته.

أمّا علاقة الإغاثة بالحداثة المستغربة، فعندي أن الحداثة بُنيت على كثيرٍ من العبث الّذي دبّ إليها من جهة مصطلحاتها. فهي قد تُعرّف الشيء بغير تعريفه أو تسميه بغير اسمه. فقصدتُ تيسير تعريف الإغاثة دون تمييع لغويّ لا يؤدي إلى شيء. وأنت لو أكملت قراءة القصيدة لوجدت تعريفين للإغاثة يسيرين قصيرين لا يجود بهما الفكر الحداثي لما يعتريه من إبهام وغموض. هذا ما قصدتُه من الحداثة الّتي أنكرتَها، عفا الله عنك. ولم تضطرني إليها القافية رغم صعوبتها، في قصيدةٍ ليست بالقصيرة.

ولحق قصيدة «حلمٌ لم تقطعه اليقظة» ما لحق غيرها من التّشويه وخطأ التّصوّر. ويبدو أن كلمة الحلم قادته إلى صرف المعنى إلى الجسد، بدلاً من الأمّة. وقد اكتفى من القصيدة بشيء من مطلعها:

«كان الوجود كما أراه بلا مكان أو زمن / وبه من الأشياء ما لا أستطيع لمن أحدث وصفها لكنها فيما تراءت لي إذا صدق الهوى فتن تحرضها الفتن / القبح فيها لم يدع شيئاً لمنتزع حن / فيها من الإحن العظيمة ما يذوب له البدن / هل يستقيم بموضع ردح الحنان مع الإحن».

فآخر البيت الأول هو «بلا مكان ولا زمن». وكلمة «حن» هي «حسن»، و»ردح» هي «روح». ولعلّ ردح هذه جاءت كأخواتها، ولو من غير قصد، لتمتّن علاقة الإنهاك بالجسد كما رسمه النّاقد أول الأمر. أعانك الله أيّها القارئ. (للحديث بقيّة).

أستاذ الهندسة المساحيّة - جامعة الملك سعود


dalgarni@ksu.edu.sa

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد