«الشعرُ آخرُ ما يموتُ..
وأولُ الأحلامِ أغنيةٌ جديدةْ
لا عمرَ إلا في الجلالِ
متى نهضتُ إليكَ في دميَ الفناءُ يموجُ
فاحفظني قصيدة.»
موسى عقيل
كلما حاولنا التركيز على الحياة، والإبحار في مناكبها، والابتعاد قليلاً عن الشعر، أعادنا هذا المحيط بسحره حتى بتنا نشك في أن الحياة والشعر لدينا اسمان لنفس الحالة، أو نفس الرحلة. هذا ما يدفعني للاستغراب من الحملة شبه المنظمة ضد الشعر، وما يشاع عن ضموره.. تلك الحملة التي يقودها أشباه صحفيين متثاقفين، وأرباع سرديين، ومكتملي وهمٍ من السرابيين الذين لا هم هنا ولا هناك، ممن لا مِشية لهم، ولا لون يميزهم، ظناً منهم أن الإبداع ينمو بالنفي والإزاحة، لا بالتكامل والتراكم.
شخصياً.. أختلس الوقت اختلاساً لمتابعة جديد الشعر الجيد لوفرته محلياً وعربياً، بل إن لدي عشرات المجموعات التي تتنافس للفت نظري، وشد انتباهي، ومنها مجموعة الشاعر موسى عقيل الجديدة «قلب الريح ليس معك» الصادرة عن النادي الأدبي بالرياض/ المركز الثقافي العربي 2010.
هذا الشاعر المتميز حقاً يبحر مدركاً بأنْ: «مسجونةٌ مدنُ الكلامِ/ إذا غدتْ سجناً/ مداهُ الريحُ».
وتكاد الريح أن تشكل العمود الفقري لهذه المجموعة الجميلة، فهي تتسيد غلاف المجموعة: «يدسُّ أذْنيهِ خلفَ الريحِ../ قدْ سمعَكْ./ ارحمْ نداءكَ/ قلبُ الريحِ ليس معَكْ».
وهي تعدو في ثناياها، لا ينافسها في ذلك إلاّ الروح، بل إن الشاعر يهبها جسداً وقصيدة خاصة « جسد الريح»:
«وأنا أتبعثرُ بين ذراعيها/ أدركُ أنّ الريحَ ستأخذني/ وسترسمُ خطوي في المنفى/ وسيأوي البحرُ إلى وجعي/ وستصبحُ أمواجي نزفا.».
وهي كالطفولة الطليقة، أو الطفولة مثلها:
«طفلٌ تربّى كالرياح المرسلة/ ويدُ الربى من حولهِ متوسّلةْ.»
تلك هي الريح، أما الروح فالشاعر في تقلباته بين الفأل واليأس، الموت والحياة:
«إني أتيتُ أبثّ نبضَ الروحِ في زمنِ الوفاةْ/ سأظلّ يا مأوى الشتاتْ
لن أصنعَ القضبانَ في سجنٍ من الكلماتِ يسألُ: كيفَ ماتْ.»
وهو شاعرٌ شاهدٌ بشجره المثمر أمام الشجر العاقر:
« بالروح يمتلئ البكاءْ/ سحائب القتلى تمرّ دَماً، وتمطرُ/
حيثُ أشجارُ الإدانة عاقرٌ/ لجذورها شرَكٌ تغيبُ الأرضُ فيهِ/
من المساءِ إلى المساءْ»
أما في قصيدة « تسابيح « الرائعة فيقترب موسى عقيل من روح وفلسفة الشاعر الكبير عبدالله البردوني، لكن بلغته وشاعريته ونفَسه الخاص:
روحٌ على الروحِ واهتزّ المدى رهَباَ/ وراحَ يسطعُ وضّاحُ البداياتِ
واصطفّتِ الغيمُ أفواجاً وقدْ لبِسَتْ/ خشوعَها الأرضُ منْ هطْلِ المناجاةِ
إنّ هذه المجموعة أرضٌ خصبةٌ، ومشروعٌ مغرٍ لدراسات نقدية جادة.. ولنقدٍ يهتم بتجارب شعراء هذا الوطن المميزين، كما يهتم بصورته وحضوره في المشهد الثقافي، ولنا فيها إبحارٌ آخر مع الريح بحول الله.
mjharbi@hotmail.com