حجة الإسلام وشيخ الإسلام، الغزالي وابن تيمية كلاهما حرك سواكن المشاهد ففرض ذاته على ذاكرة الزمن وأصغى لهما سمع التاريخ، كلاهما اشتبك مع المنتج الإغريقي في متوازييه:
الصفوي والمشائي والذي كان يشكل حينئذ طمطما قابعا في أغوار قلب الوعي النخبوي. كلاهما صال وجال ونازَل وقارع، كلاهما عركته الحياة وصهرته في أتونها الملتهب، كلاهما يملك عقلا حرا متمردا ثائرا يتمنع على الانقياد الإمعي ويتأبى على كافة ضروب التماهي والتكيف الثقافي المتكئ على أولوية التماثل المجرد. بيد أن ثمة تباينا بينهما على مستوى التعاطي مع الفلسفة وسأرقم من تجليات ذلك على النحوالتالي:
أولا:
النقد التيمي طال الفلسفة بكافة شعبها وقاوم كافة أساطينها سواء الطوائف الدهرية والطبيعية التي تتشكل تصوراتها انطلاقا من النفي المحض للألوهية، أو الاقرار بها مع نفي المستقبل الأخروي، أو أولئك الفلاسفة الإلهيون الذين ليس لديهم تحفظ على وجود ماينعتونه بالعلة الأولى أوالمحرك الأول على تباين مايطلقونه من أسماء. أما الأطروحة الغزالية فقد جرى تمحورها حول الشريحة الأخيرة على اعتبار أن الدهريين والطبيعيين ذوو منهجية جلية ومكشوفة لا يتصور إمكانية الانخداع بها بخلاف الفلسفة الإلهية حيث قد يعزب عن بعض قوالب الوعي مايشوبها من أوجه الانحراف الفظيع على صعيد الحياة العقلية وبموجب ذلك دشن سفره الذائع الصيت (تهافت الفلاسفة) حيث نقض فيه أقوال الفلاسفة التي عزاها إلى عشرين أصلا بدّعهم في سبعة عشر وكفرهم في ثلاث: قولهم بروحانية المحشر، وقدم العالم والعلم بالكليات دون الجزئيات. وقد فيّل هذه التوجهات ومن منطلق أشعري استحالت المعركة جراءه من الأشاعرة والمعتزلة إلى معركة حامية الوطيس بين الأشاعرة والفلاسفة الذين ناقشهم متوسلا كافة المناهج ولذا يقول: «فألزمهم (أي الفلاسفة) تارة مذهب المعتزلة وأخرى مذهب الكرامية وطورا مذهب الواقفية ولا أتنهض ذابا عن مذهب مخصوص بل أجعل الجميع ألبا واحدا عليهم فإن سائرالفرق ربما خالفونا (ضمير الجمع يعود إلى الأشاعرة) في التفصيل وهؤلاء (يقصد الفلاسفة) يتعرضون لأصول الدين» (تهافت الفلاسفة ص82) غير أن الغزالي الذي تصدى للفلاسفة لم يكن بمكنته التحرر من أسرها بل ظل حفيا بها بصورة أو بأخرى وكانت له جنح رؤيوية حتى قال وارث تركته الفكرية ابن العربي: شيخنا أبوحامد بلع الفلاسفة ثم أراد أن يتقيأهم فما استطاع وقد حكي عنه من القول بمذاهب الباطنية ما يوجد تصديق ذلك في كتبه (الفتاوى 4/66). ولذلك فهو في سفره الفلسفي (معارج القدس) نهج نهج الفلاسفة في بحوثه عن النفس الإنسانية وفي حديثه المتصل بخصائص النبوة حيث يرى أنها مكتسبة كما يقرر الفلاسفة وفي سفره (المقصد الأسنى ص116) يصف الإله بأنه معشوق كما يقول الفلاسفة، وفي (المضنون به على غير أهله ص117) ينحو لاعتماد تأويلات قرمطية باطنية في باب العذاب ونعيمه ويقرر أن نصوص النعيم: «مما خوطب به جماعة يعظم ذلك في أعينهم ويشتهونه غاية الشهوة».
ثانيا:
الاطراد المنهجي ووحدة المستخلصات التحليلية ظاهرة جلية في منهج ابن تيمية حيث يعييك الظفر بأي ضرب من التناقضات إلا على وجه الندور الذي لا حكم له وجلّه مما يمكن توجيهه بينما الحال مختلف تماما عند أبي حامد حيث التناقض ليس حالة فردية محدودة بل هو ظاهرة عامة تتمدد على طول خطابه وتستثير العجب وما سلف من أمثلة مؤشر على ذلك وهو لايني يمارس ضربا من الترحال الثقافي والركض المتنقل بين متباين المدارس الفلسفية والأشعرية والصوفية فحياته حافلة بضروب التقلب المنهجي ولذلك لابد لوعي منهجيته من معرفة ذلك المعتقد الذي ترتكز عليه شخصيته وهو مدخل حيوي لفهمها وإليه يعزى الكثير من الحيثيات الغامضة؛ هذا المعتقد مفاده: أنه لامانع أن يعتنق المرء أكثر من عقيدة بحسب المناخات التي يعايش أجواءها، وهو يؤكد أن لكل رجل كامل ثلاث عقائد إحداها مايظهره للكافة الدهماء، والثانية، مايعتمد في سياق التعليم وهذا خاضع لطبيعة حال المتعلم، والثالثة، المعتقد الذي وقر في خلد المرء وهو دفين الذاكرة مظنون به على غير أهله من الرعاع ولايبوح به إلا لمن هو شريكه في المعرفة. أيضاً لابد من وعي طبيعة علاقته بالنص النبوي حيث ثمة اتصال واهٍ هنا وبضاعته مزجاة في هذا الحقل وهذا مما انتقد عليه في كتاب (الإحياء) حيث إنه بالإضافة إلى أنه حافل بالشطحات الصوفية فهو أيضا مكتظ بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، طبعا وفيه كذلك - وبما أن الميزان له كفتان - نكت نفيسة قد يعز الظفر بها في سواه وقد أومأ الى ذلك ابن تيمية في (الفتاوى 10/552). إنه يتعذر سبر أغوار الغزالية من غير ملاحظة المنهج الشكي الذي أقيمت جراءه مقارنات بين الغزالي وصاحب الكوجيتو. والشك عند الغزالي يتجسد في مظهرين: أحدهما شك عملي تجشم عناء مكابدته وأرهق وعيه وقد عبر عنه في سفره (المنقذ من الضلال ص81-87) وقد نعته بأنه داء مرضي يرهق العقول. الثاني شك منهجي وهو ما يقصده حينما قال: «ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا مايشكك في اعتقادك الموروث لتنتدب للطلب فناهيك به نفعا إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحق فمن لم يشك لم ينظر ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال» (ميزان العمل ص153)
ثالثا:
ابن تيمية دلف المشهد الفلسفي وهو واضح الرؤية مدججا بأدوات النقد التي يؤوب إليها ويقيس بمعاييرها فكان مفعما بالثقة لايراوح الرأي ولايتلكأ في سيره، وضع بينه وبين الفلسفة مسافة كافية تمنحه القدرة على دقة المعاينة بينما الغزالي فقد ولج الساحة الفلسفية طالبا الحق من ورائها فأشرب حبها وغمر ذاته بها وكان في حالة من التطلع إلى معانقة الحقيقة ممتطيا صهوة الشك يشرئب لمعاينة معالم الطريق ومن ثم تجلى له بعدئذ وهن خيوط منهجيتها فأشرق نور المعرفة نسبيا في جنانه الشأن الذي حمله على تسويد بياض (التهافت) ورقم أسطره، لكن ومع كل ذلك «يوجد في بعض كلامه مادة فلسفية وأمور أضيفت توافق أصول الفلاسفة المخالفة للنبوة، بل المخالفة لصريح العقل حتى تكلم فيه جماعات من علماء خراسان والعراق والمغرب» (شرح العقيدة الاصفهانية ص115)
رابعا:
ابن تيمية تعاطى مع المنطق بصورة تحليلية باعتبار أن كل منهج ليس متسما بالحيادية بقدر ما يعكس روح الحضارة التي ولد منها، ولذا فلم ينفه بصورة مرسلة ولم يستق منه على نحو مغرق في الميكانيكية أويتقبله كوحدة فكرية متكاملة وإنما كانت له رؤيته الذاتية وتجلى طابعه الشخصي بواسطة براعته السجالية حتى اعتبره مفكر تفكيكي مناوء له كعلي حرب حيث عده في كتابه (الماهية والعلاقة نحو منطق تحويلي) «أخطر ناقد للمنطق الصوري « بينما الغزالي تعالت وتيرة تناغمه مع القوالب المنطقية كما يتجلى في سفريه (محك النظر) و(معيارالعلم) وكذلك (القسطاس المستقيم) بل ذهب إلى تقديس المقدمة المنطقية وأدرجها في (المستصفى) معبرا عنها بقوله: «وليست هذه المقدمة من جملة علم الأصول ولا من مقدماته الخاصة به، بل هي مقدمة العلوم كلها، ومن لايحيط بها فلاثقة له بعلومه أصلا» (المستصفى ص19)
خامسا:
المنطق في المنظور التيمي يستند إلى أصول الإلهيات الإغريقية ولذا يقرر «أن كثيرا مما ذكروه في أصولهم في المنطق هو من أصول فساد قولهم في الإلهيات» (الرد على المنطقيين ص4) بينما الغزالي يرى أن الجهة بينهما منفكة كما يعبر المتمنطقة ولذلك تبنى الذود عن حياض الرؤية المنطقية حيث جعل المنطق مقياسا لصحة العلوم حتى علوم الدين ذاتها واعتبره من علوم الآلة فحسب وبالتالي فهو علم ملتزم بالحيادية ولايتعرض من حيث أصله وحقيقته «للأمور الدينية لا بالنفي ولا بالإثبات» (المنقذ من الضلال ص103) والحقيقة أن التمعن المعمق يوقفنا على رابطة علّية بين المنطق كوسيلة وبين فساد التصور الذهني في الدين كمقصد وغاية وقد سلفت الإيماءة إلى شيء من تجليات ذلك فيما سلف من مقالات.
Abdalla_2015@hotmail. com