ها هي عمّان بجبالها السبعة وها هو الغيم يُمشط بلحيته الفضية رؤوس الجبال التي تضوع بالزعتر النفاذ والمريمية الداكنة، وها هي طيور الدحنون والحجل الجبلي ترسم في الزرقة اللانهائية للسماء أسهما سوداء في هجراتها الأزلية، لتقول في رفيفها الخفيت وداعاً أيتها ال»عمان» الضّواعة بالبهاء الفظيع.
أقول ها هي عمان إحدى المدن التي أحبها وآوي إليها كلما أحسست باختناق لوافح الصحراء والمدن ذات الأضراس المعدنية التي تعلك الروح وتحولني إلى شلوٍ تطوحه الريح. وعمان إذن حينما أهبط إليها. أسمع أولاً أو أستعيد صليل سيوف الرومان في فيلادلفيا القديمة ومسرحها العظيم حينما كانوا يبارزون الأسود أو أتجه إلى جرش لأحتضن عموداً حائل اللون بفعل الزمان، وقد أرحل من جرش إلى جبل شيحان لاقتفي خُطى (عرار) أعظم شاعر صعلوك أنجبته الأمة العربية بعد الشعراء الصعاليك الجاهليين العظام أو انحدر إلى (وادي اليابس) لعلي أعثر على آخر (خرابيش النور) الذين لم يعطهم حقهم الإنساني سوى (عرار - الشاعر والقاضي والسياسي العتيد وأشجع مستهتر ساخر بالإنجليز حينما كان محافظاً للطفيلة، ثم إنني وعلى وقع أقدام عرار لابد أن أعرج على (قعوار) أو (الفحيص) ولن أسأل مطلقاً عن (ناعي النهار فوق.. بالعشيه).
وحينما يتعبني التسكع خلف ذلك المتسكع الكبير لابد أن أتذكر الأصدقاء والزملاء الذين عاشوا بعصر غير عصره فا تفقد الوجوه التي أعرفها وجهاً وجهاً حينما جمعتنا الحياة في الكويت لأكثر من ربع قرن من الزمان وسأشرع بالسؤال أولاً عن مصطفى ابولبده، نبيل الغزاوي، فتحي ذيب، سميح محسن، محمود الريماوي، مروان حزين وأخيه نوح، سهير التل، مازن شديد، إبراهيم زعرور (الشاعر الذي كان يقيم في جزيرة فيلكا ويزرع النعناع في أسباخ البحر)، نواف أبوالهيجا وروايته العجيبة (.. والخيبة أيضاً) ومسرحيته المدهشة (الواوي)، عبدالقاق، رشاد أبوداود وغيرهم وغيرهم ممن لا أتذكرهم الآن، وهؤلاء الأصدقاء الزملاء الذين زاملتهم في الزمن الأخضر أي في ميعة الصبا وفي الكويت تحديداً.
أقول إن بعضهم (لربما) قضى نحبه وبعضهم ينتظر وما بدلوا تبديلاً.. ولكني أقول إن الحي أبقى من الميت وأطال الله أعمارهم وليحفظهم الله وليحفظ بلدهم الأردن العزيز. والوداع الوداع.