بيّنتُ في مقالٍ نُشر في المجلّة الثقافيّة، يوم الخميس 2761431هـ، الأسباب الّتي حدت بي إلى جمع ما لاحظته على قراءات الأستاذ سعد البواردي لثلاثة من دواويني، ونشره بعد أمّة. وها أنذا أفي بما وعدت قرّاء جريدة الجزيرة به في هذا الصّيف الملتهب جوًّا وفكرًا.
|
ورغم سعادتي بتناول الأستاذ سعد أعمالي بالنّقد وتقديمها إلى القرّاء، عبر صفحة “استراحة داخل صومعة الفكر”، وتقديري له ذلك؛ فإنّني لم أستطع أن أغض الطرف عمّا شاب نقده من تحريفٍ وتصحيفٍ وشرحٍ غيره أولى منه. وقد هالني حقًّا ما رأيت فيما كتبه من أخطاء أعزو بعضها لغيره حتّى أقرأ بعضها الآخر. ولن أقف كثيرًا عندما فيه ثناء أو رضا عمّا قدّمتُه أسعدني وفرحت به؛ وسأتجاوزه إلى ما تتمّ به الفائدة المرجوّة التي لا أشك في أنّه حفظه الله يكتب من أجلها، وقد كانت أولى القراءات لديواني الثّاني: “الإنسان ذلك الشيء”، في عدد 61 من المجلّة الثقافيّة، يوم 12 /4 /1425هـ.
|
يقول عن الشّاعر في أول نقده: “ويزيدنا وضوحاً في تعريفه للإنسان:
|
“إنه الإنسان من يفتح أبواب الحياة
|
إنه الإنسان من يصنع أطواق النجاة
|
ليس من يحيا ويفنى نوره الهادي هواء”
|
فلا خلاف في أن سجيّة أيّ قارئ يفهم الشّعر ستقوده إلى كلمة هواه بدلاً من هواء. وهذا هو واقع النّص في الدّيوان، ولكن ما أدري كيف حصل الخلل.
|
ويقول: “ألمس في شعر شاعرنا شحنة إيمانية تطل من بين ثنايا سطوره، ودفقة انتمائية لوطنه تتوازعها أبياته:”
|
“سوف أبقى شامخ القامة مرفوع العماد/ دون ديني.. فبلادي”
|
ثم قال: “وحسناً لو أبدل حرف الفاء بالواو لكان الأنسب”. نعم هذا أنسب وأسلس لما ألفناه من اللّغة المتداولة بيننا؛ ولكن عندي أنّ الأمّة من النّاس إذا أقامت لها دينًا أقامت لها وطنًا؛ ولا يقوم لها وطنٌ بدونه؛ لذلك جاءت التّراتبيّة في البيت، وقد تختلف ماهيّة هذا الدين من دين قويم إلى عادات وتقاليد أو خرافة يلتفّ حولها فكر أمّة من النّاس. ولو وضعنا الواو لكانت المساواة؛ والرّسول الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام لم يرضَ بإقامة وطن له في مكة دون دين، يكون هو حاكمه دون منازع؛ بل إنّه ضحّى بمكة أحبّ الأوطان إليه، وأقام الدين في المدينة وجعلها وطنه؛ وعاد إلى مكة فاتحًا وأدخلها في الدّين، فكانت وطنا كما هو معلوم. فلا معنى لوقوف النّاقد عند الفاء، فيما أرى.
|
ثمّ قال: “وحسنا أيضاً لو باعد بين شعره وبين المباشرة.. وتكثيف الكلمات إلى درجة الإرهاق والإرباك كقوله في أسطورة الغي:”
|
“واعتصر القول ليَّ الشدوق/ فلا عين في العين إلاّ دفت”
|
ثمّ يعلّق بقوله: “مجرد نموذج لتراكمات لفظية تعقّد لدى المتلقي الفهم وتنال من جلاء الصورة الشعرية وديباجتها”.
|
فالنّاقد أعرب الكلمات في النّص على خلاف ما وردت عليه في الديوان، وصحّف إحداها؛ فألبسها لباس الغموض الّذي وصمها به. ولو قرأها كما جاءت:
|
“واعتصر القولَ ليُّ الشدوق / فلا عين في العين إلاّ وفت”.
|
لربما اختلفت نظرته إليها، وخفّف على أقلّ تقدير من صرامة حكمه الّذي أطلقه.
|
وقال بعد أن قرأ قصيدة الجسد: “الجسد يا صديقي كي نستغرق تشريحه لا بد له من مجهر ومشرط وأخصائي وغرفة عمليات مخبرية لا لكي يُشرّح.. وإنما لرسم خيوطه ودقاته وصولا إلى وظائفه وأدواته..”. ونسي أنّه لا يقوم بهذا العمل طبيب واحد أو عالم واحد وإنّما أمّة من الأطبّاء أو العلماء؛ يصبح لكلّ منهم لبنة في البناء. ثمّ قال: “وأحسب أن الجسد في ديوانك ما زال يكتنفه غموض المحاولة رغم صدق المحاولة.. ومن الجسد إلى الوهم.. والوهم مرض نفساني يؤثر على ثبات الجسد وحواسه وأنشطته المختلفة”.
|
أصدر حكمه على الجسد في الديوان من خلال قصيدة واحدة، ولمّا شعر أن القراءة لم تكتمل بعد للخروج بمفهوم كامل عن الإنسان أو عن جسده، وأن قصيدة الوهم قد ترفد الفهم بشيء مفيد؛ قال: والوهم مرض نفساني يؤثر على ثبات الجسد وحواسه وأنشطته المختلفة”. ما دام هذا هو تصور النّاقد، فالأولى تأجيل حكمه حتّى تكتمل القراءة، أوالاكتفاء بإصدار الحكم على القصيدة موضوع الدّراسة لا على كامل الديوان كما توحي العبارة.
|
وعن هذه القصيدة (الوهم) التي استشهد بمطلعها: “وقرأت قبل النوم أن النوم قبل النوم يضني./ وقرأت بعد النوم أن النوم بعد النوم يفني.../”، يقول: “يمضي شاعرنا على هذه الوتيرة دون أن يوصله إلى حقيقة الوهم.. فالساعة وضبط التوقيت وسطحها المجالي (قصده الجاثي)على رسغه كانت الشغل الشاغل لشاعرنا.. ولي أنا الذي خرجت من المتابعة صفر اليدين لا أعرف من الأمر شيئاً”.
|
خرجت صفر اليدين، لأنّك لم تكلّف نفسك إكمال القصيدة، كما هي العادة. ولو أكملتها بفهم لوجدت قول الشاعر: “من ها هنا أيقنت أنّ الحرص أول جرعة في الوهم ..../ هذي عصاي تحطّمت بيدي فقل لي ما السبيل؟/ لقد سئمت من الكلام ، وفي ثقافة عصرنا الممقوت هذا خاب ظنّي”.
|
ثمّ لنقابل ما قاله الأستاذ سعد عن هذه القصيدة بما قاله الأستاذ جاك صبري شمّاس، في عدد 8952، يوم الأربعاء 24111417هـ، يقول: “ويحلق الدكتور الشاعر ظافر بن علي القرني في قصيدته “الوهم” ويتناول جانبًا فكريًّا هامًّا في حياة البشر يذكرني بالشاعر عمر الخيام:
|
فما أطال النوم عمرًا ولا |
قصر بالأعمار طول السّهر |
أي هاجسٍ كان ينتاب الشاعر القرنيّ وهو يقول:
|
وقرأت قبل النوم أن النوم قبل النوم يضني
|
وقرأت بعد النوم أن النوم بعد النوم يفني
|
فأخذت أضبط ساعتي متحريًا وقت السلامة
|
|
على أية وسادة كان يستريح الشاعر الذي كان قلقًا قبل نومه وبعد نومه. ومهما دخلنا في أعماق النص الشعريّ الرائع الذي شحنه بتيار فلسفي يدل على سعة تجاربه في الحياة، ويعقد مقارنة بين الوهم وبين راحة البال، والحقيقة أولاً وأخيرًا لا يعرفها إلاّ صاحبها الشاعر الذي انفتحت أمامه كوى فاطلع على ما لا يسر في واقعه. وهذا دأب كل أديبٍ شهم غيور على تراث وطنه”.
|
فأيّ الناقدين أكثر نفعًا لقارئ نَهِمٍ يبحث عن معنى يشكّل منها بعض واقعه الّذي يعيشه؟. سنكمل في اللقاء القادم ما بقي من وقفات مع “ديوان الإنسان ذلك الشيء” قبل أن نتحوّل إلى ديوان “ثمار الإنهاك” علّه أن يكون أفضل حظًّا من سابقه.
|
أستاذ الهندسة المساحيّة جامعة الملك سعود |
|