Al Jazirah NewsPaper Thursday  22/07/2010 G Issue 13811
الخميس 10 شعبان 1431   العدد  13811
 
ابن تيمية والفلاسفة
عبد الله محمد السعوي

 

الفلاسفة مكونات شتى وتنويعات متلونة على نحو يتعذر حصرها في فضاء رؤيوي مغلق إذ كل شريحة لها عالمها المفاهيمي وخرائط جغرافيتها الذهنية ونموذجها الخاص ولها استراتيجيتها في آلية الاهتداء نحو معالم الحقيقة.

المسارات الفلسفية ليست صيغة ناجزة وليست نمطاً نهائياً يستحيل كإطار مرجعي لتأطير الفكر وقولبة المنحى الثقافي. من هذا المنطلق يتعاطى ابن تيمية مع الفلاسفة, يتجلى هذا لمن ينفتح على آثاره التي ولدت مفاعيلها في الغرب وأنتجت أصداءها في الشرق, ويتجلى أيضا لمن يعاين نصوصه التراثية بآلية غير تراثية أي بآلية عصرية لكي يجسد شرطي الجدة والابتكار ويخلق إمكانات مغايرة للتعاطي وعلائق حديثة لفعل المقاربة؛ ثمة من يعتقد أن مجرد مناوأة التراث هو جواز العبور نحو الحداثة مع أنه قد يتعاطى مع حداثته بطريقة تقليدية! بعبارة أوضح, ثمة من يقرأ ابن رشد قراءة حديثة مبتكرة في حين هناك من يقرأ محمد الجابري قراءة تقليدية, إذاً العبرة في آلية المعاينة لا في موضوعها.

وعودا على بدء فإن ابن تيمية لا ينتظم الفلاسفة في خيط واحد ومن ثم فهو لا يسقط حكماً معيناً وشمولياً إلا في بعض الأصول الجذرية التي منها يجري الانبعاث الفلسفي على نحو عام كإفراز لفضاء عقلي دهري. التباين بين الأطياف الفلسفية والتجاذب بين طوائفها, وتمايز مساراتها, من الجلاء على نحو يغني عن التدليل إذ ليس لهم «مذهب معين ينصرونه ولا قول يتفقون عليه في الإلهيات والمعاد والنبوات والشرائع, بل ولا في الطبيعيات ولا في الرياضيات, بل ولا كثيرمن المنطق ولا يتفقون إلا على مايتفق عليه جميع بني آدم من الحسيات الشاهدة والعقليات التي لا ينازع فيها أحد» (منهاج السنة ص99).

ويقرر ابن تيمية أيضا أن «كل رئيس من رؤساء الفلاسفة والمتكلمين له طريق في الاستدلال يخالف طريقه الرئيس الآخر, بحيث يقدح كل من أتباع أحدهما في طريق الآخر» (الفتاوى 2/22).

وفي كتابه (الرد على المنطقيين) يؤكد: «أن الفلاسفة ليسوا أمة واحدة لها مقالة في العلم الإلهي والطبيعي وغيرهما, بل هم أصناف متفرقون، وبينهم من التفرق والاختلاف ما لا يحصيه إلا الله أعظم مما بين الملة الواحدة كاليهود والنصارى أضعافا مضاعفة» وفي (ص82) من الكتاب ذاته يقرر أن «اختلاف الفلاسفة فلا يحصره أحد (وأنهم) طوائف كثيرون وبينهم اختلاف كثير في الطبيعيات والإلهيات».

بيد أنهم مع هذا الخضم بالإمكان تقسيمهم في الجملة كما أشار ابن تيمية إلى ثلاثة أقسام. انظر (العقيدة الأصفهانية ص109) و(الصفدية 1/242) و(المجموع 12/516) وخلاصة هذا التقسيم الذي سأنقله بالمعنى تحاشيا للإطناب هو كالتالي:

الأول: الدهريون الذين جحدوا الصانع وجعلوا الوجود الإلهي وجوداً مطلقاً بشرط الإطلاق.

الثاني: الطبيعيون الذين تمحور جلّ نشاطهم الفلسفي حول عالم الطبيعة وعلى عجائب الحيوان والنبات وهؤلاء نَحَو إلى القول بنفي حقائق المستقبل الأخروي وقرروا أن العالم واجب الوجود بذاته.

الثالث: الإلهيون القائلون بقدم هذا العالم والذين يتعاطون بحفاوة بالغة مع فكرة الفلسفة الفيضية وذلك كسقراط وأفلاطون وأرسطو وهؤلاء هم الذين انفعل بخيارهم الفلسفي كل من الشيخ الرئيس, والمعلم الثاني.

وعلى الرغم من ذلك التشعب في آليات الوقائع الفلسفية إلا أن ثمة مفردات تنطوي على مكانة اعتبارية لافتة إذ يجري التعاطي معها في مجمل الطرح الفلسفي بحسبها مطلقات مقدسة أومبادئ كلية متعالية! وهذا هو مقتل الفلسفة وكابوس ذاكرتها وسأرقم شيئا من أبرزها كالتالي:

أولا: نعتوا الواجب بما يوجب عدم وجوبه وأثبتوا ضربا من الإثبات في حقل الصفات وقالوا بما يوجب عدم ثبوتها أي جمعوا بين النقيضين وهذا يعني في حقيقة الأمر نفي حقيقة الذات الواجبة التي منعوا نعتها بنفي أو إثبات، وعطلوا أظهر الصفات وهي الخالقية حينما جعلوا المعلول مقارنا للعلة في تعطيل جلي للفاعلية.

ثانيا: قولهم بالعقول العشرة وأنها أزلية صادرة عن علة موجبة بالذات وأن ما سوى العقل مربوب له وأن ثمة جواهر قائمة بذاتها أزلية مساوقة للواجب لم تزل ولا تزال معه ولم تسبق بعدم وقالوا بأن العالم يفيض عن الرب من غير مشيئته ولا قدرته وقَود قولهم: ليس إلا نفي الخالقية. وقد وضع ابن تيمية تلك القضايا على محك التحليل والمساءلة وبسطها في مواضع عديدة انظرعلى سبيل المثال (الفتاوى9/104,105,17) و(منهاج السنة 1/176) و(الصفدية 2/286).

ثالثا: اجتراح ضروب من جريرة الإشراك في جناب الألوهية من أبرزها:

أن الفلسفة في مفهومهم هي التشبه بالإله على قدر الطاقة ولذا فالفلك في المنظور الفلسفي يجري تحركه بغية التشبه به إذاً هم بذلك يجنحون نحو نفي الإيجاد للفلك وأن الله لم ينشئه ابتداء من العدم. التشبه بالإله لا يعني محض الدينونة له وإنما يرومون بذلك مماثلته بحسب ما وسعتهم الطاقة, أي لو تأتى للفرد أن يضارعه من كل وجه لفعل ذلك إذاً فالكمال عندهم هو أن يموضع المرء ذاته في مقام الندية, ولمن؟ لله !! وكفى بهذا الاسم تخويفا. هذا وقد أشبع ابن تيمية تلك الفكرة بحثا وتفنيدا. انظر مثلاً (الصفدية 332 337).

رابعا: شرعنة الانفصال عن مفردات بنية التقنين التشريعي والنحو نحو برمجة الذهنيات على محورية إسقاط التكاليف وشل حراكها عبر إحالتها خارج الإطار الديني فليس ثمة أدنى اعتراف بأي نشاط تعبدي لا صلاة ولا زكاة ولا صوم ولا حج ولا غيرها فكافة الشعائر ثمة استنفار لمقاومتها ومن ثم إقصائها خارج معادلة الوجوب, لا, بل هي محل إدانة!

وفي المقابل ليس ثمة حضور لأي محظور ديني في عرفهم وبذلك يتم نفي كافة صور العبادة وبالتالي الحد من طلاقة الروحانية التي يتفاقم مستوى تراجعها وبشكل مستمرعلى نحو يخفض وجودهم إلى درجة البهيمية المحصورة في الاستهلاك والتكاثر المجرد في مصادمة صارخة لكل القوالب النصية التي تتضمن تنصيصاً قطعياً ومباشراً على وجوب العبادة على العباد الذين تمثل ممارسة التعبد الغاية النهائية لوجودهم.

خامسا: تشويه صورة النبوة وطمس المعالم الرسالية. نعم قد يقرون بأصل الرسالة لكنه إقرار لا يثبت معدوما فهو إثبات يضارع النفي لأن النبوة في الوعي الفلسفي عبارة عن فيض على ذات النبي من العقل الفعال أونحوه, ومنهم من ينزع الى أنها مكتسبة, أو أن غير الرسول أعلى منه مقاما وقد أشار ابن تيمية إلى ذلك في مواضع متعددة. انظر مثلاً (الفتاوى 12/336,337,353,398).

أيضا تزعم الأطروحة الفلسفية في حالة من التلبس المرضي بالهذيانية أن الأنبياء يوظفون نوعية الاستجابة التي يطلقها القطاع الجماهيري العريض, يوظفون ذلك في إطلاق الأكاذيب والأدبيات الفانتازية وتغذية المخيلة الكلية بالأوهام والتبشير الذي لا يخرج عن دائرة الطوبى كأحد الفنون التحفيزية والمناورات اللازمة لسوس الرعاع وسياسة الدهماء وممارسة سلطة رمزية مطلقة على القطيع الذي هو أكثر التصاقا بالمُعاش واللحظوي والشهوي وقد أشار ابن تيمية إلى ذلك في (الصفدية1/202).

سادسا: تستمر وتيرة الانحدار الفلسفي في التصاعد فهذه الأكداس من الكتابات التي تزعم الانتماء الى التنويرية مع أنها تتعامل مع فكرة التنوير بصورة غير تنويرية وهي كثيرا ماتتحرك في المناطق المعتمة حافلة بقاموس معجمي من دوال النفي التي تحجب المعقولات وتقيم علاقة ضدية معها وتؤسس لمبلورات استئصال تمظهرات الحس الأخروي في الوعي, ولذا فهم ينفون عن البدن التنعيم والتعذيب, والشيخ الرئيس في إشاراته (4 /34) نظّر لذلك، أيضا نفوا قضية المعاد البدني لصالح الروحاني مقررين أن الشواهد النصية الواردة ليست إلا بمثابة الأمثال التي تضرب لكي نستوعب فهم المعاد الروحاني.

وهكذا فتلك المفردات هي ما تمحور حوله جُل المتن التيمي إبان تصديه لفحص تلك الفلسفة وتعرية آليات اشتغالها والكشف عن مكامن لا معقوليتها وتسليط الضوء على المناطق المستبعدة عن نطاق دهاليز الوعي الفلسفي العام.



Abdalla_2015@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد